قيس سعيّد يخلف نفسه... رمزيّات التولية ومعاني الخطاب

01 نوفمبر 2024

قيس سعيّد يؤدي القسم لولاية رئاسية ثانية أمام البرلمان التونسي (21/10/2014 فرانس برس)

+ الخط -

ترجع آخر زيارة للرئيس للتونسي قيس سعيّد إلى ما قبل انتخابات السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فزار مجلس نواب الشعب، وهي كذلك الأولى في خمس سنوات خلت، منذ أدّى اليمين الدستورية في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أمام البرلمان المُنتَخب عام 2014، وفق مقتضيات الدستور المصادق عليه من المجلس التأسيسي في 27 يناير/ كانون الثاني من العام نفسه.

كان لقسم سعيّد دلالات كثيرة آنذاك، فهو يقسم أمام السلطة الأصلية المُمثِّلة للشعب (في نظام يغلب عليه الطابع البرلماني) المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً مباشراً، يعكس الفسيفساء السياسية التونسية، وحجم تمثيلية وشعبية مختلف القوى، وكلّ من شارك في تلك الانتخابات، أحزاباً أو جبهاتٍ وتحالفاتٍ أو أفراداً وقوائم مستقلّة. كان للقسم معانٍ كثيرة، ففيه اعتراف من الرئيس بأن البرلمان هو السلطة التشريعية، وليس وظيفةً كما الأمر في دستور 2022، وتقوم هذه السلطة على التعدّدية السياسية والحزبية في داخلها، فهي أصيلة ومتأكّدة ومعترف بها دستورياً من مكونات المشهد السياسي التونسي كافّة، وغير التونسي، ولا يمكن نكرانها. كان مقرّ البرلمان التونسي في ذلك اليوم، قبل خمس سنوات، في مشهد احتفالي يعجّ بالطبقة السياسية، من رؤساء الأحزاب والمنظّمات الكبرى وقادة المجتمع المدني والشخصيات الوطنية ورؤساء الدولة والحكومات السابقين وسفراء الدول الأجنبية، وجيش من ممثّلي وسائل الإعلام المحلّية والأجنبية، جاؤوا مهنّئين ومحتفلين بنصر جديد من انتصارات الديمقراطية التونسية الفتيّة، التي كانت محلّ متابعة وإعجاب من الجميع عربياً ودولياً، إلّا من بعض اللوبيات الداخلية والأنظمة المناوئة للتداول السلمي للسلطة.

وضع الرئيس سعيّد قبل خمس سنوات يده على القرآن العظيم وأقسم، حسب ما جاء في الفصل 76 من دستور 2014، قائلاً: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها، وأن أحترم دستورها وتشريعها، وأن أرعى مصالحها، وأن ألتزم بالولاء لها". ورغم الاستبشار البائن، من الطبقة السياسية ومختلف القوى الشعبية والنخب التونسية، بمجيء الرئيس الجديد، فلا أحد كان يعتقد أن يمين أستاذ القانون ستكون يميناً غموساً، وأن الإجراء الرئيس الذي اتخذه الرئيس طوال خمس سنوات من حكمه هو تبديل نظام الحكم، وإلغاء العمل بدستور البلاد، ومن ثمّ عدم احترامه، كما ألزم نفسه وورد في نصّ القسم، واستبدله بدستوره الشخصي.

لا شيء تغيّر في معجمية قيس سعيّد وقاموس مصطلحاته وسلّم أولوياته السياسية

عاد سعيّد إلى البرلمان، يوم 21 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، في جلسة وُصِفت بأنها "ممتازة"، ولكن لا امتياز فيها سوى أنها كانت خالية من وسائل الإعلام، إلا الحكومية منها، ومن وجهاء البلاد ونخبها الفكرية والسياسية وشخصياتها الوطنية وأحزابها السياسية ومنظّماتها الكُبرى النقابية والمهنية، جمعت حكومة سعيّد ورئيسها وأعضاء مجلس نواب الشعب (الغرفة الأولى)، وأعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة الثانية)، محدودي المشروعية الشعبية والانتخابية (انتخبهم 11% من الجسم الانتخابي التونسي)، صلاحياتهم ضعيفة وأدوارهم صورية، كما هو محدّد في دستور 2022. أدّى سعيّد القسم وفق النصّ الوارد في الفصل 92 من دستور 2022، وفيه: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال الوطن وسلامته، وأن أحترم دستور الدّولة وتشريعها، وأن أرعى مصالح الوطن رعاية كاملة". ويُلاحَظ من الوهلة الأولى أن لا اختلاف جذرياً بين نصَّي القسم المنصوص عليهما في دستورَي 2021 و2022، وقد تمّ استنساخهما من دستور 1959 بعد حذف كلمة "الأمّة"، وإنما توجد فروق طفيفة، فقد استبدلت بـ"الوطن" كلمة "تونس"، واحترام دستور الدولة بدلاً من دستورها، والضمير يعود على "تونس".

اللافت في أداء سعيّد اليمين الدستورية، ليس نصّ القسم، وإنما مدى التزام الرئيس بما أقسم عليه، فهو لم يعد يمثّل ضمانةً لعدم انتهاك الدستور وفصوله، كما الحال مع دستور سنة 2014، خاصّة في ظلّ دعوات مناشدة من أنصاره ومفسّريه وحزب 25 يوليو/ تمّوز الموالي له، تطلب احتساب العهدة الرئاسية الأولى بدايةً من انتخابات 2024، وفق ما ينصّ عليه دستور 2022، فلا تُحتَسب فترة رئاسته طوال مدّة 2019-2024، ومن ثمّ يمكنه الترشّح سنة 2029. وهذا إن جرى سيؤكّد الانطباع العام بأن الرئيس سعيّد لا يحترم الدستور والتشريعات، وله سابقات في ذلك، لا تتعلّق بدستور 2014 فقط، وإنما كانت تشمل وضع المراسيم والقوانين على المقاس، وما تنقيح القانون الانتخابي أسبوعاً واحداً قبل الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، إلا دليل بيّن على مشروعية الظنّ في نيات الرئيس، وحجّة في اتهامه بضرب أخلاقيات العمل التشريعي، ودوس على التقاليد والقوانين الانتخابية وغير الانتخابية، بما تقتضيه المصلحة الخاصّة للاستمرار في الجلوس على كرسي الحكم.

صفّق نواب المجلسيَن وأعضاء الحكومة طويلاً بعد انتهاء الرئيس سعيّد من أداء القسم وتقديم كلمته التي دامت 80 دقيقة، وكيف لهم ألا يصفّقوا وقد جيء بهم للعب هذا الدور؟ ... كان تصفيقهم المطوّل علامةَ رضا، بل وإعجاب وتنويه بما جاء في خطاب التولية الثانية للرئيس سعيّد. لم تنقل الوسائل الإعلامية والاتصالية أيَّ تصريحات نقدية لأصحاب الوظيفة التشريعية، سواء بعقل بارد يتّسم بالقدرة على التفكيك وروح العقلانية أو بشيء من التواضع السياسي والاعتراف والوسطية. بينما كانت مواقع التواصل الاجتماعي تنشر وجهات نظر المجتمع المدني "الفيسبوكي" المليئة بالتعليقات والانتقادات والرفض، وحتى الازدراء لما جاء في خطاب الرئيس، الذي كان أقرب إلى تدشين حملة انتخابية مبكّرة لانتخابات 2029، منه إلى عنوان عهدة رئاسية جديدة مدّتها خمس سنوات.

لم تفتح يمين سعيّد الدستورية، وخطاب التولّي لعهدة رئاسية ثانية، آفاقاً سياسيةً أو اقتصاديةً أو ماليةً

لا شيء تغيّر في معجمية قيس سعيّد وقاموس مصطلحاته وسلّم أولوياته السياسية، ويبدو أن المحاولة التي قادها شقيقه، ومدير حملته نوفل سعيّد، وفريق من مناصريه، لتغيير الاستراتيجية الرئاسية بمراجعة المرسوم عدد 54 السالب للحرّيات والدعوة إلى التهدئة السياسية والاجتماعية ومصالحة رجال الأعمال، بدلاً من وضعهم تحت طائلة مرسوم الصلح الجزائي، لتشجيع الاستثمار... قد فشلت كلّها، وذهب ريحها.

بدأ سعيّد كلمته بالقول "يقتضي الواجب في البداية أن نقف خاشعين ترحّماً وإجلالاً لكلّ من قضى من أجل تحرير هذا الوطن من الاحتلال، ثمّ من الاستبداد ومن الخونة ومن اللصوص ومن الطغاة، ومن الذين كانوا في أضغاث أحلامهم يمنّون النفس بتفجير البلاد وتفكيكها". وتحدّث طويلاً عن الفترة من 2011 إلى 2021، وما شهدتها من مؤامرات لإجهاض الثورة، حسب قوله، وذكّر بأحداث يوم التاسع من إبريل/ نيسان 2012، والنسخة التجريبية من الدستور في إبريل 2013، التي جاء فيها: "الدولة هي التي تحتكر إنشاء القوات المسلّحة وقوات الأمن الداخلي وأيّ قوات أخرى"، معتبراً هذا النصّ مثالاً للتآمر على الدولة آنذاك، ومتهماً ضمنياً حركة النهضة الحاكمة، وما تتمتع به من أغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، مصدر السلطات كافّة ومرجعها.

حاول سعيّد في خطابه أن يستثمر في تلك الوقائع، وخاصّة حوادث الاغتيالات سنة 2013، التي قضى فيها شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، والجنود التونسيون بجبل الشعانبي، والعمليات الإرهابية سنة 2015 بمتحف باردو، ونزل إمبريال مرحبا بمدينة سوسة، وحافلة الأمن الرئاسي بتونس العاصمة. وتحدّث عن استفراده باتخاذ قرارات 25 يوليو (2021)، من تجميد عمل البرلمان ثمّ حلّه وإلغاء العمل بدستور 2014، من دون علم من أحد، عكس ما يدعيه بعضهم، قائلاً: "كان قراراً أملته المسؤولية الوطنية والتاريخية، قلت بيني وبين نفسي كيف يمكن أن أقف أمام ربّي يوم القيامة وبماذا سأجيب؟". ولم يفوّت الرئيس التونسي الفرصة للإشادة بمشروعه السياسي بدايةً من الاستشارة الوطنية والاستفتاء على الدستور وتنظيم انتخاب غرفتي الوظيفة التشريعية، وختم بتنظيم الانتخابات الرئاسية، لكنّه تجاهل المحكمة الدستورية، ولم يشر إلى موعد تشكيلها، هذا علاوة على أن قانون المالية لسنة 2025 لم يرصد لها أيَّ موازنة.

اللافت في أداء سعيّد اليمين الدستورية، ليس نصّ القسم، وإنما مدى التزام الرئيس بما أقسم عليه، فهو لم يعد يمثّل ضمانةً لعدم انتهاك الدستور وفصوله

وكعادته، اتّهم سعيّد معارضيه بالتآمر، وكال لهم ما تأبى الجبال تحمّله، معتبراً أن "آخر توافق اجرامي لهم هو محاولة إدخال البلاد في صراع شرعيات وإدخال تونس في أتون اقتتال داخلي وتقسيمها مجموعة من المقاطعات"، واستطرد: "الحمد لله تعالى أنْ تداعى النواب فأسقطوا المخطّطات التي كان عملاء الصهيونية العالمية وأعضاء المحافل الماسونية رسموها وحدّدوا حتى الموعد بهدف تحقيقها"، متّهماً ما يسمّيه "فلول المنظومة التي بقيت منتشرة في عديد المؤسسات"، واصفاً إياها بـ"الأفاعي المنتشرة في كلّ مكان تسمع فحيحها حتى وإن لم تكن تراها"، معتبراً أن ما يقوم به هو مواصلة "حرب التحرير الوطنية لتخليص البلاد من هذه الفلول ومن هذه الزواحف السامّة والأفاعي". لقد كان خطاب الرئيس سعيّد مشحوناً بالعنف اللفظي والاتهامات والحديث عن المؤامرات، فهو في كلّ مرّة يتحدّث فيها بصوت عالٍ، يُثري قاموسه السياسي بمفردات جديدة لا تمتّ إلى عالم السياسة وإيتيقاها بصلة، حتى استحالت تلك المفردات موضوعَ تحليل ودراسة علمية، كما جاء في مقالة عبد الله جنوف "النبز في الثقافة السياسية التونسية"، المنشورة في دورية عمران التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (المجلد 12، العدد 45، صيف 2023).

لم يقدّم سعيّد أفكاراً جديدةً في خطاب التولّي، واكتفى باتهاماته المعهودة للمؤسّسات المالية الدولية، لا سيّما التي تقوم بعمليات التصنيف، وقال إن منوال التنمية الحقيقي هو ما يضعه الشعب وليس ما يقوله الخبراء، وأشاد بفكرة الشركات الأهلية سبيلاً لتشغيل الشباب وغير الشباب والحدّ من البطالة، رغم التعثّر والفشل الذي تشهده تجاربها المختلفة، ودعا رجال الأعمال، من هو فارّ إلى الخارج أو نزيل السجون التونسية، إلى الانخراط في الصلح الجزائي ودفع أموال للدولة. وكرّر موقفه القديم من مسألة التطبيع من أنه لا يعترف بهذا المصطلح، ما يعفيه من سنّ قانون يجرّم التطبيع والمطبّعين، وأنهى بإظهار مساندته للقضية الفلسطينية ودعمه للشعبَين الفلسطيني واللبناني ضدّ الاعتداءات الصهيونية، من دون نعي قادة المقاومة أو الإشارة إليهم، وفي رأسهم الشهداء إسماعيل هنيّة وحسن نصر الله ويحيى السنوار.

لم تفتح يمين الرئيس التونسي قيس سعيّد الدستورية، وخطاب التولّي لعهدة رئاسية ثانية، آفاقاً سياسيةً أو اقتصاديةً أو ماليةً أمام المجتمع السياسي والحكومة التونسية، لكنها فتحت له قصر قرطاج من جديد، فدخله فاتحاً محاطاً بفرسان الحرس الرئاسي، وفق فيديو منشور على صفحة الرئاسة التونسية بـ"فيسبوك"، في مشهد يحاكي ما كان يُنظَّم من مواكب لبايات وأمراء العائلة الحسينية الحاكمة (1705 - 1956). يعلم سعيّد أن دخوله القصر الرئاسي المرّة هذه لا يلقى إجماع التونسيين ونخبهم وصفوة ما جادت به مدارسهم وجامعاتهم في مختلف القطاعات، وكبار مناضليهم ضدّ الاستبداد والدكتاتورية، وأن فوزه على منافسيه لا يعود إلى الالتفاف الشعبي الواسع حوله، وإنما يعود إلى إبعاد منافسيه (عددهم 17)، بوسائل الدولة وقوانينها كافّة، ما مهّد له طريق الفوز، فكان أوّل رئيس بعد سنة 2011 يخلف نفسه في قصر قرطاج من دون استلام وتسلّم، أو حضور من أحد.