في مكافحة الاتّجار بالبشر
"لنصل إلى كل ضحايا الاتجار بالبشر، ولا نترك أحدًا خلف الركب" ... هذا هو العنوان العريض الذي أطلقته الأمم المتحدة لهذا العام، في إحياء اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالأشخاص الذي خصصت له يوم 30 تموز/ يوليو من كل عام للاحتفاء به. يُطرح التساؤل على موقع الهيئة الأممية حول ما يعني عدم ترك أحد خلف الركب، ليكون الجواب هو الآتي: الفشل في إنهاء استغلال ضحايا الاتّجار بالبشر، عدم دعم الضحايا الناجين بمجرّد تحرّرهم من المتاجرين بهم، وترك الجماعات التي يمكن تحديدها عرضةً للاتّجار بالبشر.
تهدف حملة اليوم العالمي لمكافحة الاتّجار بالأشخاص 2023، كما نُشر أيضًا، إلى زيادة الوعي بالتطوّرات والاتجاهات المزعجة التي حدّدها أحدث تقرير عالمي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة بشأن الاتجار بالأشخاص، وتدعو الحكومات وأجهزة إنفاذ القانون والخدمات العامة والمجتمع المدني إلى تقييم جهودهم وتعزيزها من أجل تعزيز الوقاية والتعرّف إلى الضحايا ودعمهم وإنهاء الإفلات من العقاب.
وتتيح اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة عبر الحدود الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها، المساعدة للدول في جهودها الرامية إلى تنفيذ بروتوكول منع الاتجار بالبشر ومعاقبة المتاجرين بالأشخاص. وتعرّف المادة 3، الفقرة (أ) من بروتوكول الاتفاقية، الاتجار بالأشخاص بأشكاله المختلفة، والتي من ضمنها تجنيد الأشخاص، أو نقلهم وتحويلهم، أو إيوائهم بدافع الاستغلال، أو حجز الأشخاص عن طريق التهديد، أو استخدام القوة، أو أيٍّ من أشكال القسر، أو الاختطاف، أو الاحتيال، أو الخداع، أو الابتزاز، أو إساءة استخدام السلطة، أو استغلال مواقف الضعف، أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخصٍ آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الحد الأدنى من الاستغلال استغلال الأشخاص في شبكات الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي، أو العمالة المجّانية والسخرة، أو العمل خدما، أو الاسترقاق، أو الممارسات الشبيهة بالرقّ، أو استعباد الأشخاص بهدف الاستخدام الجسماني ونزع الأعضاء.
يبدو هذا الإعلان، أو هذه التفصيلات، شاملة ومحيطة بالموضوع بشكل كبير، خصوصا أن كل ما ذكر فيه معروفٌ لدى القاصي والداني، ولا يخلو بلدٌ في أنحاء العالم كلّها لا تنشط فيه هذه الأفعال بدرجةٍ ما، إنما هناك مناطق في العالم صارت شعوبها ميدانًا لممارسة الاتجار بكل أشكاله السالفة، ضمن حدودها، وفي المناطق التي وصلت إليها شريحة من هذه الشعوب، أو يطمحون في الوصول إليها، مناطق مشتعلة بحروب تحوّلها إلى دول فاشلة، وشعوب منكوبة، ليس العالم القوي بريئًا منها.
يجدر الاعتراف بأن السوريين اليوم، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، صاروا يعيشون في مخيم كبير، نازحين ولاجئين، في أقسى ظروف العيش
إذا انطلقنا من فكرة الهروب من الأوطان في طرق الهجرة "غير الشرعية"، كما دأبت الخطابات الرسمية على تسميتها، فهل يوجد اليوم، في عصر العولمة وانتشار الخبر بسرعة البرق، في لحظته، ووصوله إلى بقاع الأرض، من لا يعرف أخطار هذا الطريق من الهجرة؟ ومع ذلك، ما زالت الهجرة حلم أكبر شريحةٍ من شعوب المناطق المنكوبة، فهل الدول القوية والمجتمع الدولي لا يعرفون تمام المعرفة أسباب هذا الإصرار على الهروب في طرق الموت؟ هل هناك من لا يعرف أن الاتجار بالجنس واستغلال الفتيات، وحتى الأطفال، في هذا النشاط القميء، رائج وتتسع رقعته في تلك المناطق؟ ومع هذا فهو على اتّساع، بل إن هناك وجوهًا متنوّعة وعديدة لهذا الاستغلال تحت مسمّيات شرعية، يسهّل زواج القاصرات وزواج الفتيات تحت مسميات في ظاهرها شرعية، وفي باطنها ليست أكثر من اتجار بطريقة مقنعة، أو دعارة مبطّنة، من زواج المتعة إلى زواج المسيار إلى ما هنالك من مسمّيات، بل أليس انتعاش تعدّد الزوجات بعد أن كان قد شرع في التناقص ورفضه اجتماعيًّا لدى عديد من شرائح المجتمع نوعا من الاتجار بالبشر، خصوصا عندما يكون بسبب مخرجات الحرب وجعل الحياة مهدّدة بالفقر والجوع وانعدام الأمن بكل أشكاله؟
أليست الجريمة بكل أشكالها، من قتل وخطف وابتزاز واحتيال، مستشريةً وتتفاقم في المجتمعات المنهارة، وسورية نموذج حي، لكنها ليست الوحيدة، فالواقع يقدّم البراهين. وهل استغلال السلطة وممارستها بشكل تعسّفي بغرض السيطرة على الضعفاء واستغلالهم في كل ميادين الاتّجار أمر غير وارد؟ بل إنه أحد الملامح التي كانت وصمة على جبين الشعب السوري، تمارسه السلطة بكل أشكالها، وتفاقمت حدّ الانفجار في الوقت الراهن.
الاتّجار بالبشر ليس فقط تلك النطاقات التي جاءت في مواثيق الأمم المتحدة والهيئات أو المكاتب التابعة لها، بل هو اتّجار بشعوب بأكملها، اتّجار بالبشرية، طالما هناك حروب واستثمار فيها واقتصادات متصارعة، وأموال نهمة تبحث عن مناطق تتغوّل فيها كلما تورّمت وصار لديها فائض لا يحتمل أن يبقى خامدًا. تعاني البشرية من اتّجار مبطن، تديره القوى العظمى، والقوى الإقليمية في أكثر من منطقة في العالم، من دون الاكتراث لمعاناة شعوب في طريقها إلى الانقراض تحت سطوة الحروب والمعارك من دون أن تملك وسيلة للنهوض ورفع الجوْر عنها، شعوب مرهونة لإرادات القوى الضالعة في مصيرها، تتسيّد عليها أنظمة مرتبطة بعجلة الصراع، تبيع وتشتري بمقدّرات شعوبها ومصيرها من أجل تمكين موقعها في حلبة الصراع على السلطة، هذه الشعوب التي لن تحظى في الواقع حتى بترف أن تكون معاناتها تشبه معاناة شعوبٍ أخرى في دول قوية، حكوماتها التي تساهم في إدارة الصراع العالمي ولعبة النظام المسيطر، ترى إلى دورها وموقعها في هذا الصراع بعين، وعين أخرى على شعوبها لتمتصّ وقع الأزمات التي يخلفها هذا الواقع، بل وتسعى إلى دراستها ووضع الخطط المستقبلية، قبل أن تتفاقم المشكلات ويصبح حلها معقدًا.
الاتّجار بالبشر ليس فقط تلك النطاقات التي جاءت في مواثيق الأمم المتحدة والهيئات أو المكاتب التابعة لها، بل هو اتّجار بشعوب بأكملها
تعاني شعوب الدول الغربية من نتائج الأزمات العالمية والصراعات، خصوصا الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن الكوارث المناخية وما تخلف من هلاك للبيئة والموارد، ولديها شبكات اتّجار بالبشر، إنما يمكن القول إن مكافحتها أمر أيسر بكثير من تلك التي تعاني منها شعوب المناطق المنكوبة، الفقيرة، الخاضعة للصراعات، فاقدة السيادة على أرضها وحياتها ومصيرها، فهذه الشعوب تعاني من التهجير والنزوح، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في بلدانها الأصلية، وفي غالبية المناطق التي لجأت إليها، وهي عرضةٌ للاستغلال من المتاجرين بالبشر، وهذه المشكلة على مرأى العالم أجمع في ما يتعلق بسفن الموت. كذلك هناك شرائح واسعة من هذه الشعوب، وأكرّر أن الشعب السوري مثال دامغ، تعدّ هدفًا أساسيًا لتجّار البشر، خصوصا السوريين في دول الجوار، الذين يفتقرون إلى الوضع القانوني، الفقراء الذين يفتقرون إلى التعليم أو الرعاية الصحية، أو العمل اللائق، يعيشون في مخيمات، أو في تجمّعات لا تليق بالكرامة الإنسانية، يواجهون التمييز والعنف، والإساءة، السلوك الذي بات يتفاقم تجاه اللاجئين السوريين، في لبنان، وفي تركيا بشكل لافت، ويعاني من ينتمون إلى فئات المجتمع المهمّشة، كالنساء والأطفال أكثر من غيرهم، كما يجدر الاعتراف بأن السوريين اليوم، في المناطق التي يسيطر عليها النظام صاروا يعيشون في مخيم كبير، نازحين ولاجئين، في أقسى ظروف العيش، وعليهم أن يكتموا آه الوجع وآه الاستنكار، وإلّا، فمصيرهم معلوم مجهول.
ما جدوى الاتفاقيات الدولية في مصائر هذه الشعوب؟ ألم يتحوّل الشعب السوري إلى ساحة تجنيد من أجل الصراعات؟ هل سئل الشباب عن رأيهم في الحرب أم سيقوا إليها رغمًا عنهم، وفي كسر لإرادتهم؟ وهل تُرك للشعب، بغالبيته التي باتت تفوق التسعين بالمئة، مصيرًا خارج بازارات الاتّجار به، بكل الأشكال التي تدعو الأمم المتحدة إلى مكافحتها؟ فإلى متى ستبقى هذه المنظمات الدولية كذبةً كبيرة تخدّر البشرية بشعاراتها، مثلها مثل الأحزاب الشمولية الحاكمة في بلداننا والبلدان التي تشبهنا، البارعة في التنظير عن الحقوق والمساواة والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر وصون الحرّيات والكرامة، بينما تبيع الوطن والشعب معًا لقاء بقائها في الحكم؟ نحن، الشعوب المنتهكة المقهورة المنكوبة، خلف الركب، يا سعادة الأمين العام للأمم المتحدة، أرجو أن يبقى قلقك، كما اعتدنا عليه من قِبَل من سبقك، وربما من سيأتي بعدك، ضمن حدود الأمان.