في قلب كل هذا الخراب

17 أكتوبر 2023
+ الخط -

في قلب كل هذا الخراب، ماذا تقول؟
أنت لا تُعاني من الحيرة عمّا يمكنك كتابتُه في مقالةٍ أسبوعية عليك في مُطلق الأحوال تحريرها، فالموضوعات والأحداث والتطوّرات الصادمة لا تمنحك، في هذا الجزء من العالم، هدنةً أو نفَسًا، لشدّة ما تتلاحق بوتيرةٍ يوميّة مفزعة، وبكمٍّ لا يجعلها غير قابلةٍ للحصر فحسب، بل يحوّلها بدراميّتها وهوْلها، أنباءً تتنافس على تشويش عقولنا وضربها. أجل، أنت لستَ حائرا في ما يستأهل أن تكتب عنه، أنت فقط عاجز، هذا كل ما في الأمر. عجزُك هذا فظيع، يزن آلاف الأطنان ويجثم ثقيلا فوق صدرك، يهرُس أعصابك، يطحن روحَك، ويُشعرك بأنك لستَ أكثر من متلصّص يتابع من خلف زجاج الشاشة الصغيرة البارد، كيف تُنفّذ أحكامُ الإعدام في أهله. أنت لست حتى هناك. أنت لا ترى إلا جزءا من المشهد، سنتيمترات قليلة لا أكثر، من موات يعمّ ويتكاثر ويكثُر. انظرْ، أنت أقلّ من ذبابةٍ تحوم فوق مشهدٍ دامٍ ولن تلبث أن تدبق وتعلق. اسمعْ، أنت لا شيء، صوتٌ بلا صوت، كلامُ بلا حروف، فعلُ بلا أثر، هباء. افهمْ، ما يحكي هنا هو الرصاص، القذيفة والدبّابة والصاروخ، الشرّ، لغة الاستقواء ولغة الدم. 
الضحايا يسقُطون، الضحايا يصرُخون في وجهك: أين أنتم؟ لكن عجزك كامل، مطلق، فما تسمعه وتشاهده غامرٌ مثل تسونامي جارف، يقذفك، يقطع أنفاسك، يقطّع أوصالك. نعم، أنت غريقٌ في محيط من الغرقى. لا، أنت مريضٌ بما تراه، مصاب بما تُبصر، فمك، مثل أفواههم، مملوءٌ بالغبار، بالرّدم، بالطعم الحارق للجبروت والإحساس القاتل بالظلم. في عينيك، مثل ما في أعينهم، النظرة الهلعة لمن قابل موتا لن يُفلته وسيبقى يطارده حتى يُردى. منبوذٌ، مرميٌّ لبؤسك، يتركك العالم تنزف حياتك في الحلبة، قبل أن يفلت ثيرانه الهائجة ويجلس متفرّجا.
تتلفّت حواليك، قطعا، العالمُ جُنّ! بات شرُّه خالصًا، نقيًا، مشعًّا وجارحًا كالماس. تراه يسابق نفسه على رجم الضحية. الحقيقة؟ ما همّ، يصنعها، يمحو ما كان ويبدأ من حيث يريد. الضحية؟ يفبركها. والجلاد؟ يحوّله ضحية. يكفي أن يبكي ويتظلّم ويصرُخ. إسرائيل المسكينة، يهبّ لنجدتها مُطلِقا يدها لقتل الفلسطينيين الأشرار. "حماس" اعتدتْ. بلى كلّهم حماس، كلّهم إرهابيون، كلّهم حيوانات ويستحقّون السَّحق! العالم لا يريد أن يسمع أي شكوى، أي انتقاد، عن ابنه البارّ. حاول إبادته في الماضي، لكنّه اليوم يقف إلى جانبه ويعمل على إبادة من يريد له ابنُه أن يُباد. 
ما يجري اليوم في "العالم الحرّ" مرعب. من يحاول أن يذكّر أن ثمّة ما سبق، أن للحكاية أصلاً، بداية، يُرمى مباشرة في قفص الاتهام. المحكمة تجهز فورا والمحاكمة تبدأ: هل تُدين ما ارتكبته "حماس" بحقّ المدنيين؟ نعم أدين، لكن... ستوب! ليس من لكن. هذه الـ"لكن" تعني أنك معادٍ للسامية. لكن... ستوبّ! لا نريد أن نسمع تعليقا آخر. لقد منعنا المظاهرات، منعنا رفع علم فلسطين، كمّمنا الأفواه، أقفلنا الهواء، ورفعنا علم إسرائيل على معالمنا الشهيرة، تضامنًا. "العالم الحر" تقلّص، انكمش،  هوى على ذاته وبات ثقبًا أسود. يا للشقاء، يا للعين التي لا ترى، للأذن التي لا تسمع، لليد التي تأخذ وتصفع وتصدّ وتتّهم. ثمّة من محا التاريخ، وبدّل الأسماء، واقتلع البشر والشجر، ثم وقف يتباكى ويتظلّم. فلسطين؟ أين هي؟ لا يوجد شيء اسمه فلسطين، افهموا وعوا! استوعبوا! انسوا!
لكن... 
"شعبَ الله المختار"، نحن لن ننسى. دولتكم قامت على سرقة أرضٍ، وتزوير تاريخٍ، وقتل أبرياء، وما زالت ماضية في كذبها وإجرامها وفتكها. استوعبوا أنتم، نحن من جهتنا يستحيل أن ننسى، فهل يأتي يومٌ وتفطنون؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"