في غواية المنفِّر
ما الذي يدفعنا، نحن القرّاء، إلى مطالعة أعمالٍ أدبيةٍ تبلغ في توصيف الحقارة البشرية وأصناف البشاعة والقسوة مبلغاً يفوق مقدرة كثيرين منّا على الاحتمال؟ ما هو الباعث الكامن خلف غواية قراءة نتاج يجوز تصنيفه في باب "أدب القسوة"، وقد تجاوز حدودَ النوع، ليتسرّب إلى رواياتٍ تلاقي انتشارا ورواجا أينما كان؟ وما هو على وجه الخصوص تأثير مثل تلك الأعمال "المنفّرة"، إذا صحّ التعبير، على القارئ بشكل عام، حين يطالع مثلا أعمال جورج باتاي، الماركيز دو ساد، ستيفن كينغ أو نيللي كابلان، أو أيضا تلك الأعمال الأخيرة الكثيرة، الصادرة بالعربية، حيث تتصدّر المشهدَ ثيمةُ السجن والحرب والتعذيب، وقد بلغت درجة من السادية والعنف تندى له الجباه.
في بحثها القديم الصادر عام 1983 بعنوان "قوى الهول، دراسة في المنفّر"، (les pouvoirs de l’horreur)، قدّمت الفيلسوفة البلغارية/ الفرنسية والناقدة الأدبية والمحللة النفسية والناشطة النسوية، جوليا كريستيفا، نظريتها المستندة إلى مفهوم جديد، هو مفهوم "المنفّر"، The Abject، مستندةً إلى مفاهيم فرويدية ولاكانية وأدبية، ومقسّمة بحثها إلى جزءين: الأوّل ويتعلّق بمفاهيم نظريتها تلك، فيما يطبّق الثاني هذي الأخيرة على كتابة الأديب الفرنسي، فردينان سيلين، وأيضا على نتاج أدباء آخرين، من أمثال دوستويفسكي، لوتريامون، بروست، وآرتو، مع محاولتها الإجابة عن السؤال: "لماذا يوجد ذلك الشيء الذي ليس موضوعا ولا غرضا، لكنه مع ذلك يعود باستمرار، يبلبل، ينفّر، ويفتن؟".
هذا وتقول كريستيفا إنها استعارت تعبير "المنفّر" هذا من القاموس التحليلي النفسي، إذ يتعلّق الأمر بموقف الشخص حيال إثارةٍ ما، مثل أن تتقيّأ حين ترى قيئاً، أو أن تشعر بالقرف مما هو مُقرف، فينقسم إحساسُك هذا إلى مرحلتين: النفور والفتنة. فالنفور دافع غريزي عنيف يُشعرك بأن "المنفِّر" خطر يتهدّدك وينبغي التخلّص منه عبر رفضه، أكان صادرا عن الخارج أو الداخل، أي عن الأنا، بوصفه دافعا غريزيا مكبوتا أو سلوكا خاطئا، تأمرنا الأخلاقيات بالابتعاد والالتفات عنه.
مع ذلك، ثمة ما يشدّنا، بطريقة سحرية، إلى النظر إلى ما يثير نفورنا وقرفنا. لماذا؟ ربما لأنه من الممكن تفسير مرحلة الغواية من خلال الاستعانة بمفاتيح التحليل النفسي، تقول كريستيفا، فالحديث عن موضوعٍ ما هو حديث عن موضوع رغبة، وهو ما يكشف لنا أن الغرض المنفِّر ليس منفّرا أو مقرفا إلى تلك الدرجة، وهو ما يضعنا تلقائيا في منتصف الطريق ما بين الفضول غير الصحّي والإثارة التي يمارسها علينا تجاوزُ الممنوع، أي الرغبة اللاعقلانية بمشاهدة ما لا يحق لنا رؤيته، وما هو مغرٍ بقدر ما هو منفّر ومرفوض.
وبالعودة إلى ما سمّيناه "أدب القسوة"، وبشكل عام إلى الأعمال الفنّية "البشعة" والمنفّرة، فإن القارئ أو المشاهد سيجد نفسه متأرجحا بين قطبين متناقضين، الجذب والنفور، الفتنة والعياف. الأمثلة التي يمكن أن تُعطى في هذا الصدد كثيرة ومتنوّعة، وهي تطاول الروايات والأفلام ومعارض الصور، والتجهيزات.. إلخ، وإنْ كان ما يجمع بينها في النهاية اعتمادها جمالية استثنائية، متعبة ومزعجة. فالمنفّر والبشع والدنيء، وكل ما يستثيره فينا من مشاعر متناقضة، هو في النتيجة مزيج من رأي وعاطفة، شجب واندلاق مشاعر، دلالات ودوافع غريزية. "الحقير هنا، على كثب، لكنه صعب الهضم. هو ينادينا، يقلقنا، يغوي رغبتَنا التي تمانع وتأبى الانصياع، ثم تستدير مذعورةً، رافضةً، قرفة. أجل، المطلق يحميها من الخزي (...) ومع ذلك، وفي الآن نفسه، هناك هذي الاندفاعة، هذا الانقباض في الأحشاء، هذه الوثبة، وهذا الانجذاب دونما توقف، إلى مكانٍ مغرٍ بقدر ما هو مرفوض، أشبه بصحنٍ ارتداديّ (بومرانغ) لا يمكن ترويضه، قطب نداء وصدّ يجعل من يحويه يُجنّ حرفيا".