في غواية الانقلابات العسكرية وحمّى انتشارها
شهدت أفريقيا في أقل من خمس سنوات 16 انقلابا عسكريا من بين 17 في العالم كله، من دون احتساب المحاولات الفاشلة التي تم إخمادها، فضلا عن الحروب الأهلية التي تمزّق أكثر من بلد، على غرار السودان وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية، التي عادة ما تضع وجها لوجه الجيوش الرسمية مع مليشيات ومجموعات عسكرية غير نظامية.
ظلت أفريقيا متحفا حيا مفتوحا للأنظمة العسكرية التي انقرضت من الأرض تماما، ولكن القارة ما زالت تحفظ لنا بعضا منها، بل غدت، في السنوات الأخيرة، تعيد إنتاج هذه الأنظمة بأكثر مشهدية مزوّدة بالذكاء الصناعي وشبكات التواصل الاجتماعي والكثير من القدرات العسكرية، ما يجعلها مختلفة إلى حد كبير مع انقلابات السبعينيات والثمانينيات، رغم نزوعها السلمي إلى حدّ ما، وتجنّب السيناريوهات الدموية التي رافقت الموجات الأولى من الانقلابات (قتل الرؤساء، إعدامهم اثر محاكمات شعبية أو عسكرية، باستثناء انقلاب تشاد).
وكانت دراسات استشرافية عديدة، مع الاقتراب من عتبة القرن الواحد والعشرين، قد ذكرت أن أفريقيا ستكون بعد عقود قليلة، معنية بالعبور إلى موجة مهمة من التحوّلات الديمقراطية. لا يمكن إنكار ذلك، فهناك تجارب مهمة أنجزت في أكثر من بلد، خصوصا أن جنوب أفريقيا والسنغال والمغرب ... إلخ من أوائل البلدان التي خطت خطوات مهمة في هذا المسار، ضمن سياقات حكمتها الخصوصيات المحلية والمآلات غير الموحّدة، غير أن كل تلك التوقعات قد خيبتها، إلى حد كبير، الوقائع المتتالية، فها هي تعيد إلينا موجة من الانقلابات العسكرية، مسفهة كل تلك التطلعات التي انتظرت تعميماً للديمقراطية وترسيخاً لقيمها وقواعدها.
حين غادرت فرنسا، تركت نخبا سياسية تابعة لها، ودعمتها عند الاقتضاء بقدراتٍ كثيرة
لفهم كل هذا الذي يحدث، علينا الإشارة، أولاً، إلى أنّ جل الانقلابات التي وقعت كانت في بلدان استعمرتها سابقا فرنسا التي أشرفت على ترسيم حدودها المصطنعة في تعسّف حادّ، غير عابئة بالنسيج الاجتماعي المعقد، والمتكوّن من القبائل والجماعات الإثنية، فضلاً عن إغفال حد أدنى من قواعد الجغرافيا في ابتكار هذه الدول وإنتاجها، على غرار حرمانها من المنفذ البحري، صغر المساحة، تشتت السكان، ... إلخ. ويبدو أن هذا الأمر كان متعمّداً حتى تظل التبعية محكمة، حتى إن استقلت هذه البلدان.
حين غادرت فرنسا، تركت نخبا سياسية تابعة لها، ودعمتها عند الاقتضاء بقدراتٍ كثيرة، حتى تحولت تلك الأنظمة إلى محميّات فرنسية سياسية وعسكرية: حضور الجيش الفرنسي بقواعده تحت ذرائع عديدة، غير أنه تبين بطلانها حين سيطرت التنظيمات الإرهابية على مناطق عدة من تلك البلدان، كما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد وغيرها، ما يجعل وجود هذه القوات لا معنى له. استطاعت فرنسا مقابل حماية تلك الأنظمة أن تستغل ثروات تلك البلدان الغنية بالبترول، الحديد، الذهب، اليورانيوم .. إلخ، من دون أدنى جهد في النهوض باقتصادياتها وتحديث بناها التحتية، وهي التي تتذيّل قائمة الأكثر فقرا في العالم، رغم كل تلك الثروات الطبيعية.
بعد أكثر من نصف قرن تقريبا، تجد فرنسا نفسها عاجزة عن حماية الأنظمة تلك ومصالحها معاً. وهذا مؤشّر بليغ عن إخفاقات ذريعة تلاقيها فرنسا سنة بعد سنة في أفريقيا. لم تغير فرنسا سياساتها، وظلت كما هي. تحولت الأزمنة وتبدلت الأجيال وجرت رياح عاتية في السياسة الدولية، وظلت فرنسا جامدة تعيد نموذجها الاستعماري الجام: دعم الأنظمة، زراعة نخب فرنكفونية حاضنة تدين لها بالولاء، حماية عسكرية للنظم، استغلال مكثّف للخيرات وتوظيف الإدارة المحلية لخدمة مصالحها، حتى وإن كان ذلك من خلال دعم الفساد أو التغاضي عنه.
تناست فرنسا أن روسيا والصين داخلتان إلى ما كانت تتوهم أنه مجالها الحيوي بلا منازع
حرصت بعض البلدان على إدخال جرعات من ديمقراطية الواجهة على غرار إجراء الانتخابات، التعدّدية السياسية، مؤسّسات دستورية... إلخ، لكنّ كل هذا التحديث السياسي الشكلي اصطدم حقيقة بإكراهات حقيقية متعدّدة الواجهات، إفقار متوصل للطبقات الشعبية، مشكلات اجتماعية متراكمة، شباب متبرّم، فساد مستشر، نهب استعماري للخيرات، نسب نموّ ضعيفة، فقر يلتهم البشر... غدت ديمقراطية الواجهة مسخَرة لا معنى لها، بل تحوّلت نقمة، وقد رأت فيها الشعوب حيلة تبتكر لاستدامة الفقر والتبعية. كانت ديمقراطية فاسدة، إذ ظلت العائلة والقبيلة والنخب متحالفة مع الاستعمار السابق.
تناست فرنسا أن روسيا والصين داخلتان إلى ما كانت تتوهم أنه مجالها الحيوي بلا منازع، تسللت روسيا في أكثر من بلد أفريقي، واستطاعت أن تقدّم نفسها حامياً لها من الجماعات الإرهابية، وهو ما لم تفعله فرنسا وظلت عاجزة أو متردّدة. أما الصين فقد استثمرت في عديد من هذه البلدان، وشيدت مشاريع كبرى. تحولت فرنسا حينئذ إلى العدو الأول، لكنّ الديمقراطية تحوّلت معها إلى نقمة صارخة. لم تجد الديمقراطية من يدافع عنها، وقد شاهدنا الفرح الكبير الذي استُقبلت به تلك الانقلابات.
يلقي هؤلاء بالديمقراطية مصحوبة بأدرانها، كما يلقى بالرضيع مع مياه الغسيل. يعتقد الكلّ أن تلك الأنظمة المدنية الرخوة، والتي ظلت تستمد شرعيتها من خارج منجزها الاقتصادي والتنموي، وحتى السياسي، مستندة إما الى حماية الجيش الفرنسي أو كتائب الأمن الرئاسي، غير جديرة بالدفاع عنها. لذلك صفقوا لهذه الانقلابات وهلّلوا لها، لأنهم فقدوا الثقة في نخب سياسية مدنية، عجزت عن أن تمنحهم الديمقراطية والرخاء والأمن.
و مع ذلك كله، سيكون من الوهم الاعتقاد أنّ تلك الأنظمة العسكرية التي عزلت الحكام المدنيين "المنتخبين"، ولو لفترة انتقالية، تُفضي إلى استئناف مسار الديمقراطية. توحي كل المؤشّرات بأن النموذج السوداني يمكن أن يتعمم، خصوصاً أنّ السير الذاتية لقادة هذه الانقلابات، فضلاً عما تولوه من مهام سابقة، ترجّح أن يكون هؤلاء أكثر استبداداً وفساداً ممن سبقوهم. كمن يستجير من الرمضاء بالنار.