في سقطات الإعلام الغربي وسقوطه
على امتداد سنوات الصراع الطويلة مع المشروع الصهيوني وتجسيده في دولة إسرائيل، اعتدنا سماع التبريرات والمواقف المعلّبة والجاهزة في الانحياز إلى دولة الاحتلال وروايتها من القيادات السياسية ووسائل الإعلام في الغرب، بالقول إن "إسرائيل دولة ديمقراطية، وتجري فيها انتخابات". ويمكن لهذا الموقف أن يتخذ بعداً تنظيريّاً مضلِّلاً ومزيَّفاً من خلال الادّعاء بوجود "قيم مشتركة" بين الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبات هذا الزعم حجر الأساس، ولازمة في تصريحات الرؤساء الأميركيين وتبريراتهم ودعمهم المطلق إسرائيل.
تكرّر هذا الادعاء في مئات المواقف التي تبرّر الانحياز الغربي الجارف إلى إسرائيل، وحربها على الشعب الفلسطيني في غزّة، بكل ما تخللها من فظائع وجرائم حرب موصوفة، ومنها جريمة الإبادة الجماعية. وانعكس ذلك بفجاجة وصُراخ في وسائل الإعلام الغربية من محطّات تلفزة وصحف كبرى ووكالات أنباء، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي. وامتد الانحياز إلى مواقف شخصية لأبرز المذيعين ومقدّمي البرامج والعاملين في وسائل الإعلام هذه انسجاماً مع مواقف إداراتهم ومشغّليهم، بحيث بات السؤال التقليدي السمج، والذي يكاد يتكرّر في كل لقاء مع شخصيات عربية وفلسطينية، وعالمية أيضاً، معارضة للحرب "هل تدين الفظائع التي قامت بها حماس في السابع من أكتوبر؟"، وبطريقةٍ توحي بأن التسليم المسبق بهذه الإدانة شرط مسبق لأي حوار منطقي، بل شرط لمنح المتحدّث فرصة إبداء رأيه.
لسنا في حاجة إلى إقامة البرهان على أن الديمقراطية الغربية وانتخاباتها ليست دليلاً حاسماً على نزاهة الأنظمة السياسية الناشئة عن هذا النوع من الديمقراطيات، ولا على التزامها المبادئ والقيم التي تردّدها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فالتاريخ يزوّدنا بعشرات الأمثلة عن أنظمة استعمارية منتخبة وديمقراطية هي الأخرى، مارست أقسى أنواع الاستعباد والقمع، وارتكبت أشدّ أنواع الجرائم والمظالم لدى استعمارها شعوب إفريقيا وآسيا وبلدانهما، وعن انحراف هذه الديمقراطيات " المنتخبة" إلى أنظمة نازية وفاشية معادية لكل قيم الإنسانية ومبادئ العدل والإخاء والمساواة بين البشر، وصولاً إلى الجريمة الماثلة أمام العالم بأسره لدولة الاحتلال في قتل عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، وتدمير المدن والحضارة والتاريخ، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى أكثر معسكر اعتقال في العالم، وتجويع الناس وتعطيشها وحرمانها من أبسط مقوّمات الحياة.
الغريب والمريب أداء المؤسّسات الإعلامية الكبرى في الغرب، والتي أشبعت جمهورها والعالم بأسره تنظيراتٍ وأحكاماً عن المعايير المهنية الصارمة
نفهم مواقف القيادات السياسية، والدوائر والهيئات والمؤسسات والأفراد الذين يقودون الدول الغربية ويمثلونها، أنها تعبير عن المصالح العميقة، السياسية والاستراتيجية والاقتصادية لهذه الدول، التي لا تقتصر على دول الغرب الجغرافي، بل تشمل الغرب الثقافي، واقتصاديات السوق، وامتداداته في آسيا وأوقيانوسيا، فهذه الأوساط ترى في إسرائيل ربيبتها وصنيعتها وقلعتها المتقدّمة وأداتها الضاربة للحفاظ على المصالح الاستراتيجية لدول الغرب الاستعماري وشركاته، ومواصلة الهيمنة على مصادر المواد الخام، واستباحة الأسواق، والسيطرة على طرق التجارة، فضلاً عن الأحلاف العسكرية والأمنية. ولذلك كانت لإسرائيل أدوار وظيفية عدوانية لا تقتصر على جيرانها، بل تشمل أيضاً كل التهديدات التي تطاول الغرب. ولا يخلو الأمر أيضاً من نزعات عنصرية استعمارية ترى في إسرائيل واجهة للغرب الأبيض في مواجهة الشرق العربي والمسلّم المتوحش، وهي نزعاتٌ نرى بعض تجلياتها في معاداة اليمين الشعبوي والمتطرّف في أوروبا للمهاجرين والأقليات بالتوازي والتلازم مع دعم سياسات الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته تجاه الشعب الفلسطيني.
لكن الغريب والمريب أداء المؤسّسات الإعلامية الكبرى في الغرب، والتي أشبعت جمهورها والعالم بأسره تنظيراتٍ وأحكاماً عن المعايير المهنية الصارمة، من نزاهة وموضوعية وحياد ودقة وتحقُّق من المعلومات قبل نشرها، وغيرها من مبادئ وأخلاقيات يتعلمها طلاب الصحافة في يومهم الأول. لقد غادرت هذه المؤسّسات حياديتها ومهنيتها، وخالفت مبادئها، وانحازت إلى أهوائها ومصالح أصحابها ومموّليها، فتبنّت الروايات الإسرائيلية الملفقة من دون تحقق وتمحيص، وساهمت في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وفي شيطنة مقاومتهم وتاريخهم ووجودهم، ومن ثم إنكار حقوقهم الوطنية والمدنية، وتبرير الفظائع التي تُرتكب بحقّهم بما في ذلك جرائم الإبادة.
رافق انحياز وسائل الإعلام الغربية إلى إسرائيل الحرب على غزّة منذ يومها الأول من خلال تبنّي التلفيقات الإسرائيلية بشأن قطع الرؤوس وذبح الرضّع
ثمّة قوائم لا تُحصى من أمثلة الانحياز، ومخالفة المعايير المهنية في أداء وسائل الإعلام، ومن هذه الوقائع الحديثة إغفال أسباب إحراق الطيار الأميركي آرون بوشنيل نفسه وسط صرخاته المنادية بالحرية لفلسطين، ورسالته الواضحة والصريحة والناضجة التي كلفته حياته، بأن ما سيقوم به من فعل قاس تجاه نفسه لا يُقارن بما يتعرّض له الفلسطينيون في غزّة من جرائم إبادة. وشمل تجاهل وسائل الإعلام ذكر سبب ما أقدم عليه بوشنل كلّاً من صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست، وشبكتي سي أن أن وفوكس، ووكالة أسوشييتد برس، في حين حظي الخبر بإشارات مقتضبة للحرب بين "إسرائيل وحماس وغزّة" في بعض الصحف البريطانية والفرنسية تحديداً، ومال الاتجاه الأغلبي لدى وسائل الإعلام الغربية إلى وضع القضية في حدود الفعل الفردي ذي الدوافع الشخصية المعزولة عما يجري في غزّة.
رافق انحياز وسائل الإعلام الغربية إلى إسرائيل الحرب على غزّة منذ يومها الأول من خلال تبنّي (من دون الحد الأدنى المهني من ضرورات التحقق) التلفيقات الإسرائيلية بشأن قطع الرؤوس وذبح الرضّع وإحراق الأطفال في الأفران واغتصاب النساء وقتل اليهود لمجرّد كونهم يهوداً. وعلى الرغم من أن هذه المزاعم لم تصمد يوماً واحداً، لم تتراجع وسائل الإعلام تلك عن رواياتها، ولم تعتذر إلى جمهورها عمّا اقترفته من خيانة لمبادئها المهنية وللحقيقة. وقد تواصلت مواقفها المحابية لإسرائيل والمناوئة للفلسطينيين من خلال نمط التغطية الذي يُفرد مساحاتٍ موسّعة لعرض الرواية الإسرائيلية، ويختزل تاريخ الصراع والقضية إلى ما جرى في 7 أكتوبر من دون صلةٍ بالاحتلال وتاريخ الصراع ومعاناة الفلسطينيين على امتداد العقود الثمانية الماضية. وكذلك في مجال استخدام المصطلحات التي تصف الصراع، ثمّة قاموس منتقى لمفردات هذا الصراع التي توحي بأن الفلسطينيين يموتون من تلقاء أنفسهم، في حين يُقتل الإسرائيليون على أيدي الفلسطينيين. وأن الضحايا الفلسطينيين مجرّد أعداد وأرقام وإحصائيات، في حين أن لكل فرد من الضحايا الإسرائيليين حياته الشخصية وبيئته العائلية الحميمة، وابتساماته وسط أصدقائه، وأحلامه التي قطعها الموت.
يبرُز الانحياز في أسوأ صوره وأكثرها ابتعاداً عن الأصول المهنية في البرامج الحوارية التي يديرها إعلاميون منحازون وموالون لإسرائيل
يمثل نموذج الصحفية عنات شفارتس نموذجاً شائعاً لتمرير الانحياز وكأنه شيء عادي، فهذه الصحفية في "نيويورك تايمز" نقلت أخبار "الفظائع والأهوال" عما جرى يوم 7 أكتوبر كما استقتها من مصادر رسمية إسرائيلية، من بينها رئاسة الوزراء والمتحدّث العسكري ومنظمة زاكا الدينية اليهودية المعنية بجمع الجثث، والتي ثبت تلاعبها بالوقائع لتبرّر حصولها على مزيد من الأموال. ولم تكلف الصحفية نفسها عناء التدقيق، حتى بعد أن نشرت الصحف الإسرائيلية عينها شهادات وتحقيقات تنسف رواية الفظائع هذه. لكن الصحيفة لم تتخّذ أي إجراءات بحق الصحفية التي واصلت المبالغة في انحيازها، إلى أن ضُبطت بالجرم المشهود عبر تأييدها العلني تحويل غزّة إلى مسلخ لتعذيب الفلسطينيين، وهو ما دعا متابعين للصحيفة إلى تقديم شكوى عليها ليتبين أنها خدمت في الجيش الإسرائيلي وتتابع دورها السياسي والأمني من موقعها الجديد صحفية.
يبرُز الانحياز في أسوأ صوره وأكثرها ابتعاداً عن الأصول المهنية في البرامج الحوارية التي يديرها إعلاميون منحازون وموالون لإسرائيل، كما فعلت جوليا هارتلي التي اشتهرت بأنها الصحفية الأكثر فظاظة وعدوانية وابتعاداً عن أخلاق المهنة وآداب الحوار. ويتكرّر الانحياز في واحد من أكثر البرامج الحوارية البريطانية شهرة الذي يقدمه بيرس مورغان، ومع أنه أقلّ صلافة من هارتلي، لكنه يصر في كل لقاء على "التحقيق" مع ضيفه بشأن الموقف من 7 أكتوبر، وكأن إدانة "حماس" شرطٌ لأي حوار موضوعي.
من المفهوم أن لكل إنسان أخطاءه الشخصية والمهنية، صحفياً كان أو طبيباً أو سائق شاحنة، وهذا ما يمكن أن نعده بمثابة "سقطات" فردية يمكن احتمالها أو تعويضها. وفي مهنة الصحافة، وبموجب أخلاق المهنة العامة وسياسات التحرير لكل مؤسّسة، من واجب الصحفيين والمؤسّسات الإعلامية التي يعملون فيها المسارعة إلى تصويب الأخطاء فور وقوعها، وأن تنصف من تطاولهم هذه الأخطاء، وأن تحاسب من يتعمّدون ارتكابها أو يكرّرون ذلك من دون حذر أو تبصّر، فمن حقّ الجمهور أن يحصل على معلوماتٍ صحيحة ونزيهة لقاء ما يدفعه لوسائل الإعلام. أما الانحياز المسبق والأعمى لوسائل الإعلام، كما هي حالة تغطية الحرب على غزّة والموقف من القضية الفلسطينية، فلا يمكن احتسابه مجرّد سقطات وهفوات شخصية، بل هو سقوط مهني وأخلاقي تغذّيه المصالح والحسابات السياسية.