في حيثيّات الاعترافات بدولة فلسطين
يدخل اعتراف كلّ من إسبانيا والسويد وأيرلندا بدولة فلسطين في سياق الضغوط الدولية الرامية إلى وقف حرب الإبادة الجماعية، التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، منذ ما يقارب الثمانية أشهر، ويضاف إلى مسار دولي متصاعد بدأ مع انتفاضة طلبة في معظم جامعات الولايات المتّحدة وكندا وأوروبا، التي تشي بأنّ ثمّة تغيّرات عميقة في وعي الشباب العالمي المُتعلّم، ثم جاء قرار محكمة العدل الدولية، الذي أمرت فيه إسرائيل أن "توقف فوراً هجومها العسكري، وأيّ عمل آخر في مدينة رفح، قد يفرض على المجتمع الفلسطيني في غزّة ظروفاً معيشيةً يمكن أن تُؤدّي إلى الإضرار المادّي بها على نحو كلّي أو جزئي، كما أمرت المحكمة إسرائيل بفتح معبر رفح بين مصر وغزّة للسماح بدخول المساعدات الإنسانية، إلى جانب ضمان وصول المُحقّقين في تهمة الإبادة الجماعية. ولا يخرج عن هذا المسار الدولي طلبُ المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، من هيئة المحكمة، إصدار مُذكّرات اعتقال في حقّ كلّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت، إضافة إلى ثلاثة من قادة حركة حماس.
لا جدال في أنّ الاعتراف بدولة فلسطين خطوة سياسية، لها رمزيتها الخاصّة، وسيكون لها انعكاسات مُؤثّرة في الساحة السياسية والدولية
يأتي اعتراف الدول الأوروبية الثلاث الجديدة كي يضاف إلى ثماني دول أوروبية أخرى، سبق أن اعترفت بدولة فلسطين: السويد، التي كانت أول دولة في الاتحاد الأوروبي تعترف بها في 2014، في حين أنّ كلّا من بلغاريا والتشيك وهنغاريا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وقبرص اعترفت بدولة فلسطين قبل انضمام تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي. كما أنّ باقي الدول الأوروبية لا تمانع الاعتراف بدولة فلسطين، ولاسيما دول رئيسية، مثل بريطانيا وفرنسا، اللتين أعلن مسؤولون في حكومتيهما أنّهما تسيران في طريق الاعتراف، بانتظار التوقيت المناسب، فيما تشترط ألمانيا إجراء مفاوضات من أجل حلّ الدولتَين. يضاف إلى ذلك، أنّ كلّا من فرنسا وإنكلترا امتنعتا، للمرّة الأولى، عن التصويت في شأن عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتّحدة، وذلك، بعكس الولايات المتّحدة التي عارضت منح فلسطين عضويةً كاملةً في الأمم المتحدة. ويصبّ هذا الموقف الفرنسي والإنكليزي في مصلحة زيادة عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، وبما يعطي دفعة جديدة للجهود العربية والدولية الساعية إلى إرساء حلّ الدولتَين، وتقوية الضغط الدولي على إسرائيل من أجل إيقاف حربها العدوانية على قطاع غزّة.
يكتسي اعتراف كلّ من إسبانيا والنرويج بدولة فلسطين أهميّة خاصّة، لأنّ له دلالات معينّة في تطورات الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، إذ استضافت العاصمة مدريد في مطلع تسعينيات القرن الماضي مفاوضات السلام بين الطرفَين الفلسطيني والإسرائيلي، فيما احتضنت العاصمة النرويجية أوسلو، مفاوضات سرّية بينهما، أفضت إلى اتفاقات أوسلو (1993)، التي نقلت منظّمة التحرير إلى الداخل الفلسطيني، وأنتجت السلطة الفلسطينية.
إذاً، باتت 146 دولة، من أصل 193 دولة في الأمم المتّحدة، تعترف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس، التي سبق وأن أعلنها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، القائد الراحل ياسر عرفات في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، خلال انعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة في العاصمة الجزائرية.
لا جدال في أنّ الاعتراف بدولة فلسطين في جزء من فلسطين التاريخية خطوة سياسية، لها رمزيتها الخاصّة، وسيكون لها انعكاسات مُؤثّرة في الساحة السياسية والدولية، إذ ستعقبها خطوات عملية تدعمها في المدى المنظور، لأنّ الاعتراف بدولة فلسطينية يعني زيادة عدد الدول التي تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني في دولته المستقلّة أسوة بشعوب العالم الأخرى، وتحقيقاً لمبدأ تقرير المصير الذي تنصّ عليه مبادئ الأمم المتّحدة، بما في ذلك إعلان دولته المستقلّة، وبالتالي تنزع الاعترافات بدولة فلسطين أيّ شرعية عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بما في ذلك المستوطنات، واعتبارها غير شرعية. كما أنّ الدول التي تعترف بفلسطين دولةً مستقلةً يقع عليها التزامٌ بالعمل من أجل مساعدة الشعب الفلسطيني في التخلّص من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، لذلك يمكن تفسير ردّ فعل حكومة الحرب الإسرائيلية الغاضبة والعنيفة على الاعترافات الجديدة، إذ قامت باستدعاء سفرائها في هذه الدول، فيما استدعى وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس سفراء إسبانيا والنرويج وأيرلندا ووبّخهم بشدّة، فيما أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش رفضه تحويل عائدات الضرائب (المقاصة) إلى السلطة الفلسطينية، وطالب بتقييد تحركات مسؤوليها وتكثيف الاستيطان بالأراضي المحتلّة.
ليس مفيداً الجنوح نحو انتظار نتائج مباشرة للاعترافات الدولية بدولة فلسطينية، لكن يمكن استشراف نتائج هذا المسار، لأنّه سيفضي إلى تأكيد قيام دولة فلسطينية مستقلّة
قد يذهب التفكير إلى أنّ الاعتراف بدولة فلسطينية يشكّل خطوة أولى، تمهّد الطريق أمام حلّ دائم وسلمي لصراع امتد منذ عام 1947، وطُرحت خلال سنواته المديدة مبادرات سلام، وخاصّة مبادرة السلام العربية، لكن التعنّت الإسرائيلي كان العائق الأكبر أمام نجاحها، وبسببه لم تحدث أيّ تغييرات على الأرض، وجرى نسف أسس السلام العادل والشامل، الذي أرسيت مبادئه في مؤتمر مدريد عام 1994، ثم أغلق الباب أمام مبادرات السلام ومفاوضاته كافّة، لكنّ توالي الاعترافات بدولة فلسطين، يفتح مساراً سياسياً جديداً في العالم بخصوص القضية الفلسطينية، فيجسّد مدى صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسام، ويؤكّد أنّ هذا الشعب لن يتخلَ عن حقوقه المشروعة في تقرير مصيره، وأنّ الكيان الإسرائيلي لن يشعر بالأمن والأمان إلا حين يعيش الفلسطينيون بأمان وكرامة في دولتهم المستقلّة.
ليس مفيداً الجنوح نحو انتظار نتائج مباشرة للاعترافات الدولية بدولة فلسطيني، لكن يمكن استشراف نتائج هذا المسار، لأنّه سيفضي، عاجلاً أو آجلاً، إلى تأكيد قيام دولة فلسطينية مستقلّة، قياساً على تجارب شعوب أخرى، إذ يقدّم نضال شعب جنوب أفريقيا، المرير والطويل، ضدّ نظام الفصل العنصري، مثالاً على زوال نظام الأبارتهايد وصيف نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. قُضي على هذا النظام وإلى غير رجعة، ليس في جنوب أفريقيا وحدها، بل كذلك، في ناميبيا وزيمبابوي.