هل كان ميشال عون رجل التحدّيات؟
لا يخرج كتاب اللبناني كريم بقرادوني الصادر أخيراً؛ "ميشال عون رجل التحدّيات" (كنعان للنشر والتوزيع، بيروت، 2024)، عن سياق كتبه السابقة التي سجّل فيها محطّات من سِيَر رؤساء للبنان ربطته بهم علاقات وثيقة، وذلك بعد أن أصبحوا رؤساء سابقين، فكتب عن أمين الجميل وإلياس سركيس وإميل لحّود. ويكتب في كتابه الجديد عن الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، الذي عمل بقرادوني مستشاراً له في الظلّ خلال فترة رئاسته، وتجمع بينهما علاقة قديمة، إذ تعرّف إليه من طريق بشير الجميّل عام 1980، وراح منذ ذلك يسجلّ بعض ما سمعه من أقوال منه، ويروي بعض ما شاهده من أفعال، كي يُخرِج هذا الكتاب، الذي ينوّه فيه إلى أنّ عون كان على علم مسبق به.
يدفع عنوان الكتاب إلى التساؤل عن ماهية التحدّيات التي واجهها عون، وهل كانت تحدّياتٍ أم آمالاً وطموحات سعى إلى تحقيقها، وعمّا إذا كان عون بالفعل رجل التحدّيات أم أنّه الرجل الذي فعل كلّ شيء من أجل الوصول إلى كرسي الرئاسة، وبصرف النظر عن الطريقة والثمن؟ والأكثر أهمّية من ذلك كلّه التساؤل عما آلت إليه الأوضاع في لبنان، خاصّةً على المستويين، المعيشي والاجتماعي، بعد انتهاء ما أطلق عليه بعضهم "العهد القوي"، وهي تسميةٌ لا يوافق عليها بقرادوني، إذ "لا عهد قوياً أو ضعيفاً بالمطلق، بالنظر إلى التحالفات والظروف في الوضع اللبناني الذي لا يسمح بتقييم رئيس على هذا الأساس"، وذلك في محاولة منه لتخفيف رهاناته على عهد من يفترضه رجل التحدّيات.
معروف أن بقرادوني شخصيةٌ سياسيةٌ تدرَّجت في حزب الكتائب اللبنانية، حتّى صار رئيسه عام 2001، لكنّه اضطر إلى الاستقالة منه عام 2007. وكان من أبرز قيادات مليشيات القوات اللبنانية، تحت قيادة بشير الجميّل ثمّ سمير جعجع، ووُجّهت له اتهامات بالمشاركة في مجازر صبرا وشاتيلا في سبتمبر/ أيلول عام 1982. وعُيِّن بقرادوني وزيرَ دولةٍ في 2004، ثمّ أصبح مستشاراً للرئيس إلياس سركيس بين عامي 1976 و1982. وخلال حياته السياسية، تولّى مهمّةَ حمل رسائل الزعماء المسيحيين في لبنان. وسعى جاهداً كي يكون مُقرَّباً من رؤساء لبنان الذين عاصرهم، ومستشاراً لهم في العلن أحياناً، وفي الظلّ في غالب الأحيان.
هل كان عون رجل التحدّيات أم أنّه الرجل الذي فعل كلّ شيء من أجل الوصول إلى كرسي الرئاسة، وبصرف النظر عن الطريقة والثمن؟
يركّز الكتاب على تفاصيل سنوات الحكم الستّ التي قضاها عون في الرئاسة اللبنانية، مع الإسهاب في تناول ما سبقها من أدوارٍ ومواقعَ، بدءاً من تقاربه مع بشير الجميّل، الذي كان عون على علاقةٍ به قبل انتخابه رئيساً، والذي اختاره في عام 1980 كي يكون عضواً في هيئة من المستشارين، كان من بينهم أنطوان نجم وسمير جعجع، وكان "هدفها إيجاد صيغة سياسية جديدة للبنان"، لكنّها لم تخرج بأيّ نتيجةٍ بسبب الخلاف الكبير بين عون وجعجع، اللذين كانا يختلفان على أيّ نقطة تُطرَح في الهيئة.
عيّن أمين الجميّل خلال فترة رئاسته عون قائداً للجيش اللبناني في 23 يونيو/ حزيران 1984، على الرغم من معارضة الوزراء "نبيه برّي ووليد جنبلاط وعبد الله الراسي بشدّة"، لأنهم كانوا يعتبرونه منحازاً، وأحد "رموز الحرب". وكان الأكثر تشدّداً في معارضته وليد جنبلاط، لكن الجميّل أصرّ على تعيينه، وردّ على المعترضين بذريعة أنّ "ميشال عون هو الأقدر على معالجة الاختراقات التي أصابت الجيش اللبناني على يد القوات اللبنانية، وهو الذي يستطيع إعادة لملمة المؤسسة العسكرية المبعثرة". أما سمير جعجع فقد "كان قلقاً من جرّاء تعيين ميشال عون قائداً للجيش خشيةَ أن يكون ثمن هذا التعيين اتفاقاً بين عون والجميّل على ضرب القوات اللبنانية. ومنذ البدايات ظهرت معالم الصراع الماروني على الزعامة بين الثلاثي أمين الجميّل وميشال عون وسمير جعجع".
يروي بقرادوني أنّه التقى الجنرال عون في 1985، وهنَّأه على "نجاحه في إدارة المفاوضات مع إسرائيل، وتسجيل كسبٍ للبنان على الصعيد الإعلامي"، وأنّه كان يخشى "تفخيخ هذا النجاح عن طريق تفجير الوضع بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية"، لكنّ عون ردّ عليه بالتأكيد أنّه "ليس وارداً عنده الاصطدام بالقوات اللبنانية أو التخلّص منها، لكون ذلك سيخلّ بالتوازن في لبنان". وعلى العكس من ذلك، خاض عون بعد توليه قيادة الحكومة العسكرية، حربَين خاسرتَين، الأولى سمّاها "حرب التحرير"، التي اندلعت بين عامي 1989 و1990، وتواجهت فيها وحدات من الجيش اللبناني بقيادة عون مع قوات نظام الأسد (الأب)، التي كانت موجودة في لبنان، إلى جانب وحدات من الجيش اللبناني كانت مواليةً لرئيس لبنان في ذلك الوقت إلياس الهراوي. والحرب الثانية هي "حرب الإلغاء"، التي اندلعت في يناير/ كانون الثاني عام 1990، وتواجهت فيها وحدات من الجيش اللبناني بقيادة عون مع مليشيات القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. وقد "اختصرت جريدة النهار في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1990 مسار الجنرال فكتبت: "خسر حرب التحرير لأنّها كانت أكبر منه، وخسر حرب الإلغاء لأنّه اعتبرها أصغر منه". وفي نهاية حروبه قادته سفينة فرنسية فجر 28 أغسطس/ آب 1991، إلى مدينة مرسيليا. و"أصبح ميشال عون أوّل منفي رسمي منذ استقلال لبنان في 1943، وأوّل لاجئ سياسي قضى في السفارة الفرنسية في لبنان 321 يوماً على التوالي".
يحاول بقرادوني أن يقارن بين ميشال عون وفؤاد شهاب، واعتبار عون خليفةً لشهاب، مع أنّ المقاربة بين الرجلَين مجحفةٌ ومخاتلةٌ في الوقت نفسه
عاد عون إلى لبنان في السابع من مايو/ أيار 2005، إثر انتفاضة الأرز، التي اندلعت ردَّاً على اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط من العام نفسه. وكان لسان حاله يقول "لن أتخلّى عن حقي في الموقع الرئاسي، وقد أخطأتُ عندما تنازلت في العام 2008 لمصلحة الرئيس ميشال سليمان، ولن أُكرَّر هذا الخطأ مرَّة أخرى"، فتحالف في البداية مع قوى 14 آذار، لكنّه سرعان ما انقلب عليها كي يتحالف مع قوى الثامن من آذار، إذ عمل حزب الله، مع نهاية عام 2014، لإغلاق الأبواب أمام أيّ مُرشّح غير حليفه ميشال عون، ورفض بشكل قاطع أيَّ مُرشّح توافقي على صورة الرئيس السابق ميشال سليمان، الأمر مهَّد إلى وصول عون لكرسي الرئاسة اللبنانية في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، فقضى فيه ستّ سنوات، وغادره في العام 2022.
يرى بقرادوني أنّ ميشال عون، خلال فترة رئاسته، أراد بناء دولة قوية وجديدة، لكن ما حال دون ذلك أنّه أراد أن يكون "حكماً وحاكماً" في الوقت نفسه، وهو أمر لا ينصح الرؤساء به "كي لا يكون الرئيس طرفاً، لأنّ المطلوب منه هو "لعب دور الحكم لتبقى كلّ الأفرقاء في تواصل معهم، ويُحافظ على التعدّدية اللبنانية والتعايش الذي يُعَدُّ رئيس الجمهورية مسؤولاً عنه". يضاف إلى ذلك أنّ عون كان محاصراً بما يسمّيه "أزمة ثقة" مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وبعلاقة متوتّرة مع الأميركيين. ويعزو بقرادوني توتّرها إلى الاتفاق الأميركي مع دمشق، الذي جرى بشأن انتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية بعد انتهاء ولاية أمين الجميل، إذ إنّه "في أحد الاجتماعات سأله المندوب الأميركي السؤال التالي: من تريد إلى رئاسة الجمهورية؟ فأجابه عون: المشكلة ليست في رئاسة الجمهورية، المشكلة في عدم وجود جمهورية". والمستغرب أنّ بقرادوني يُقرّر أنّه منذ ذلك الوقت "بدأ الخلاف بين الولايات المتّحدة والرئيس عون"، ويتغافل عن باقي العوامل والأسباب، وخاصّةً تغيير عون موقفه حيال ما كان يسمّيه "الوصاية السورية على لبنان"، والتحالف مع حزب الله، والانحياز نحو المحور الإيراني، وسوى ذلك.
يتهرّب بقرادوني من تناول دور جبران باسيل (صهر الجنرال عون)، إذ لم تسعفه الحيادية والموضوعية من أجل تبيان أسباب إطلاق يده، وفرضه على قيادة حزب التيار الوطني الحرّ
يحاول بقرادوني أن يقارن بين ميشال عون وفؤاد شهاب، واعتبار عون خليفةً لشهاب، مع أنّ المقاربة بين الرجلَين مجحفةٌ ومخاتلةٌ في الوقت نفسه، إذ إنّ الرئيس شهاب كان بالفعل قائداً للجيش اللبناني قبل أن يُنتخَب رئيساً للجمهورية على أثر ما عرف بثورة 1958، وحاول خلال عهده الحدّ من تدخّل نظام جمال عبد الناصر، وتدخّل المكتب الثاني (أو بالأحرى الاستخبارات) في كلّ شاردة وواردة في لبنان، وسعى إلى بناء مؤسّسات الدولة وإنفاذ القانون والعمل بالدستور. وما يفرّقه عن عون كثير، إذ يكفي أنّ شهاب حاول تشكيل تيّار وطني لبناني للمساهمة في بناء دولة عابرة للطوائف، بينما كان عون طائفياً بجوانحه ومواقفه كلّها، واستند إلى نظام المحاصصة الطائفية كي يصبح رئيساً، وذلك بعد أن انقلب على حلفائه في "ثورة الأرز"، وبعد شغور رئاسي مديد. كما أنّه ليس دقيقاً اعتبارُ بقرادوني أنّ عون "من الأشخاص الذين لا يجرّبون الأمر مرَّتَين"، إذ "حين يصادق، يصادق حتّى النهاية، وحين يعادي، فحتّى النهاية أيضاً"، لأنّه لم يعادِ نظام الأسد حتّى النهاية، على الرغم من أنّ هذا النظام هزمه في "حرب التحرير"، وأخرجه هارباً (يقال بثياب النوم) من القصر الرئاسي إلى السفارة الفرنسية، ثمّ تحالف مع هذا النظام الذي هزمه، وقبل الخضوع لإملاءات حزب الله، في مقابل الوصول إلى الرئاسة.
يتهرّب بقرادوني من تناول دور جبران باسيل (صهر الجنرال عون)، إذ لم تسعفه الحيادية والموضوعية من أجل تبيان أسباب إطلاق يده، وفرضه على قيادة حزب التيار الوطني الحرّ، وعلى الحكومة اللبنانية، وكان مكروهاً من لبنانيين كُثر. ويضاف ذلك إلى ما يُستشَفُّ من الكتاب بشأن مدى خيبة الآمال التي كانت مُعلَّقةً على عون لتحقيق إنجازات رئيسَ جمهورية، يعزوها بقرادوني إلى أنّها كانت أكبر من أيّ واقع، ويكتفي بالإشارة إلى أنّه و"على بعد تسعة أشهر من الانتخابات الرئاسية صارحني الرئيس عون في أواخر آذار/ مارس 2022 قائلاً: لن أترك موقعي إلا وأكون قد كشفت الفاسدين وشجّعت الأوادم والشجعان على تسلّم مقاليد الحكم بعد انتهاء ولايتي"، وأنّ عون كان يرى "أنّ لبنان غير مُفلِس، بل منهوب"، من دون أن يكون قادراً على التساؤل عمَّن نهبه، ومن سرق أموالَ اللبنانيين ومدّخراتهم، ولماذا لم يتمكَّن عون من وضع أحد من السارقين وراء القضبان؟