في حال السودان وغيره
منذ السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول في عام 2010، أي ما يزيد على 12 عامًا، عندما أحرق شاب في تونس نفسه أمام مقرّ بلدية سيدي بو زيد احتجاجًا على حرمانه من لقمته ونصرة لكرامته، ومنطقتنا العربية تقف على شفير الهاوية، أو كما يقول المثل الشعبي "على كفّ عفريت". فهل صحيح نحن شعوب لا تعرف القيام بثورات، ولا تليق بها حياة كريمة بعيدة عن الاستبداد والاستعباد؟ ولماذا صارت كلمة حرية، أو حياة، أو كرامة، أو عدالة اجتماعية، أو دولة مدنية، أو غيرها من الشعارات تثير الهلع، ليس فقط مما تجرّ على أصحابها من العنف والقتل بلا رادع ولا محاسبة ولا حدود، بل لما تسبّبه بسرعة كبيرة من انهيار دول وأوطان؟
عشرة أيام كانت كافية في السودان، كي يرزح الشعب تحت وطأة فقدان الأمن والجوع والعطش وقلة الخدمات من مياه وكهرباء واتصالات وخدمات صحية وغيرها. وهذا البلد نموذج حي وحديث، سبقته عدة دول عربية ما زالت تحت ثقل الحروب ومخرجاتها، ولم تصل إلى عتبة انتهاء الحرب والبدء في البناء وترميم ما خلّفته السنوات الحارقة، من العراق إلى اليمن إلى سورية إلى لبنان إلى تونس، إلى دول مرشّحة لأن تنفلت فيها الأمور، ولن يكون مصيرُها أفضل، وهذا ما لا نتمناه، وأخمن أن ما من فرد، ما عدا تجّار الحروب والطامعين بالسلطة والمرتهنين للخارج، يتمناه.
لماذا تنهار دولنا ومجتمعاتنا بسرعة قياسية؟ لو تمعّنا في واقع هذه الدول، منذ مرحلة ما بعد الاستعمار، فإن لسان الحال يقول إنها لم تُبنَ على أسس الدولة الحديثة، دولة المؤسّسات والقانون، بغض النظر عن شكل الحكم السائد في كل واحدةٍ منها، ربما توجد فروق طفيفة وليس ضامنة للاستقرار الممتد، بين قليل من الدول العربية والباقي منها، لكنها تتشارك فيما بينها بخيطٍ خفي، يجعل من إمكانية انهيار المجتمع والدولة قائمة ومرجّحة عند أول خلاف أو تمرّد أو انتفاضة أو حتى انقلاب على الحكم، فلماذا؟
يحتاج التشبث بالحكم والاستئثار بالقرار، والقضاء على أي صوت معارض، وشلّ الحياة السياسية، في الوقت نفسه، إلى دعم من الخارج وولاءات وارتهان
صحيحٌ أنه لدى كل هذه الدول دستور وقوانين، تبدو في نظرة شاملة دولا حديثة، تبدو السلطات فيها أن كلا منها تمارس بواسطة مؤسّسة دستورية، من سلطة تشريعية تمارسها مجالس نيابية أو برلمانات منتخبة وفقا لنص الدستور، أو مجالس شورى، إلى سلطة تنفيذية تمارسها المؤسّسات التنفيذية أو الحكومات، ثم سلطة القضاء تمثلها المحاكم بمختلف أشكالها. ولكلّ من هذه السلطات اختصاص محدّد في إطار الدستور، لكن معظم هذه الدول تقوم على بنىً تفترق عن بنى الدولة الحديثة، أو دولة المؤسّسات والقانون، بل هي في غالبيتها تقوم على سلطة الفرد أو الحزب الوحيد أو العائلة، تمارس الحكم بالقوة، السافرة أحيانًا، أو عن طريق حكومات الظل أحيانًا أخرى، وأظنّ أن الطريقتين تجتمعان معًا في الوقت نفسه، فتصبح الدولة القائد أو الزعيم أو الرئيس أو الأمير أو الملك أو غيرهم، وتصبح مؤسّسات الدولة مرتبطة به وبتوجّهه وأجنداته، فهي دولة قائمة على الاستيلاء على الحكم والتمسّك به بالقوة والقمع والاستبداد، وليس بالقانون والدستور والمؤسّسات، هذه الأدوات التي يستند عليها الحكم في دولنا، الممعنة في الابتعاد عن شكل الدولة الحديثة الأكثر انسجامًا مع العصر، أدوات القوة التي تنزع منطقيًا الشرعية عن النظام، لا تستطيع تثبيت أركانها إلّا بفسح فرص الفساد أمام أدواتها في الحكم. ولذلك تترهل المؤسّسات شيئًا فشيئًا، ويتراجع الاقتصاد، وتنكص المجتمعات نحو الأنماط والعلاقات القائمة على الروابط الدينية أو القبلية أو العائلية، وعلى كل ما يمكن أن يفرّق أو يحمل بذور تهتّك المجتمع وانهياره أمام التحدّيات من هذا النوع.
يحتاج هذا التشبث بالحكم والاستئثار بالقرار، والقضاء على أي صوت معارض، وشلّ الحياة السياسية، في الوقت نفسه، إلى دعم من الخارج وولاءات وارتهان، حتى لو رهنت أصول البلاد كلها إلى الخارج، أو بيعت. لذلك سيكون الصراع في السودان مثل غيره، ممتدًّا من دون إمكانية التنبؤ بنهايته أو مساراته، فهو مرتبط أيضًا بصراعات دولية وتدخّلات إقليمية، من الصراع على قطبية العالم، الدائر حاليًا على شكل حروب أكبرها الحرب الروسية على أوكرانيا، إلى المنازلات المتنوّعة بين الصين وأميركا، إلى التحالفات الجديدة التي تتشكل اليوم بين مجموعات من الدول ترى في ضمان مصالحها وفق خطط جديدة علاقاتٍ تكسر النمطية التي سادت عقودا طويلة، أولوية وضرورة. ولم يعد المثل الشائع في دمشق "العرس في دوما والطبل في حرستا" حكرًا على دمشق، ولا حصرًا في معناه الأوّل، في افتراق مكاني لفعلين مرتبطين ببعضهما بعلاقة جدلية، بل صار مثالًا يمكن إسقاطه على كل منطقة مشتعلة في العالم، ومنها منطقتنا العربية وجديدها السودان، إذ يمكن للعرس أن يكون في أوكرانيا مثلًا، والطبل والزمّار في أي منطقة.
انهيارات الحياة تحدُث سريعاً في السودان، نتيجة عدم بناء مؤسّسات فيما مضى، بالرغم مما استبشرناه من الانتفاضة السودانية ووجهها المدني
ما الذي نحتاجه؟ ربما، بل من المؤكّد أننا نحتاج إلى الكثير من البناء، لكنه بناء يحتاج إلى زمن واختمار، فكيف يمكننا منع الانهيار الشامل؟ أنظمة الدول العربية قائمة على القوة، وبالتالي شرعيتها هشّة. هذا مبدئيًّا، وعندما تعي أنظمة الحكم مدى لا شرعيتها تمعن في استخدام القوة من أجل بقائها، على حساب بناء الدولة والمجتمع، بل هي تقوم على الولاءات التي تقابلها المكافآت. وهي دولٌ لا تقيم وزنًا لائقًا بدساتيرها، بل تعديل الدستور ليتوافق مع الرغبة أو المصلحة الشخصية او المنفعة، من أبسط المهام، والشواهد حاضرة، فيصبح الدستور تحت إمرة الحاكم او السلطة الاستبدادية، وليس فوقه، كما إنه لا يمكن الركون لمبدأ الفصل بين السلطات وحماية مؤسّسات الدولة ووضع الحدود بينها، أو الوثوق به، خصوصا بالنسبة لمؤسّسة الجيش، التي تزج في الصراعات، وتسعى إلى السلطة بالقوة والانقلابات، في وقتٍ لا تمتلك فيه ما يؤهلها لإدارة الحياة، والأزمات غير السلاح واستخدامه من دون حساب، حتى لو كان الثمن كل هذه الانهيارات.
من الظلم القول، كحكم قيمة منجز، إن المجتمعات العربية غير قادرة على إنتاج أنظمة قادرة على العيش وإدارة الحياة، فواقع الانتفاضات العربية أظهر أن هناك شرائح مجتمعية واسعة ترنو إلى مجتمع مدني وقادرة على إدارة مؤسّسات مدنية، وترى في التعدّدية الثقافية والإثنية والسياسية أدوات ازدهار، وليس تفتيتًا وعرقلة في البناء، لكن التدخّلات الخارجية وأدواتها المدعومة بالقوة تصادر القرارات، وتقضي على الومضات المضيئة في المجتمع، وها هي السودان، كما سورية قبلها، وقبلها العديد، مرتع للتدخّلات الخارجية التي صارت تتحدّث عنها المؤسسات الإعلامية والمراكز البحثية والتسريبات الاستخباراتية بكثافة ومن دون مواربة.
قيل عن اليمن إن أزمته ستُحل في أشهر معدودة، كذلك عن سورية، وقبلها عن العراق، لكن الحلّ لم يأتِ، وإنما أتى الخارج ومعه الخراب. ويبدو أن الأزمة السودانية على الطريق، طالما هي كسر عظم بين فريقين عسكريين، يمتلكان السلاح ومدعومين من جهات خارجية، وها انهيارات الحياة تحدُث سريعًا، نتيجة عدم بناء مؤسّسات فيما مضى، بالرغم مما استبشرناه في البداية، من الانتفاضة السودانية ووجهها المدني التي أطاحت الرئيس عمر البشير.