في تفكيك مقولة "الفساد ظاهرة عالمية" وأخواتها

10 يونيو 2022
+ الخط -

الفساد والاستبداد صنوان؛ إذا حضر أحدهما نادى على الآخر ولاذ به؛ وكذلك إن ظاهرة الفساد كلية وشاملة؛ والفساد لا يمكن اختزاله بحال في جانب مادّي منه وإهمال الشروط المعنوية فيه، والتي تسهم في شيوعه وتبريره. النظر الضيق قد يوفر البيئة والقابلية لمقولات تسويغ الفساد أو ترويج بعض عناصره أو جوانبه، وهي مقولات ترد في الخطاب المحيط بالظاهرة، تحاول ترويج الفساد "بالقطعة" أو بالحجج الجزئية، فإن تجزئة الحجّة بالنسبة للفساد، أو عدم الانطلاق من أصل الفساد الهادم والناخر كيان المجتمع، وعدم تحريم الفساد وتجريمه، بكل أنواعه وأشكاله وجوانبه ومجالاته، إنما هي مدخل لتمرير الفساد وتبريره.

الفساد ظاهرة تتعلق بتحوّل الشأن العام للجماعة إلى شأن خاص لفرد أو أفراد أو لجماعة صغرى. وهو كذلك تحوّل المصلحة العامة للجماعة المعنية إلى مصلحة خاصة لأفراد أو لجماعات أضيق. ومن أعظم الفساد، على ما يؤكّده الحكيم طارق البشري، "أن تحمل سلطة الاستبداد سيف المعز وذهبه وقدرته التنظيمية الهرمية الهائلة، وأثره غير المقاوم في استتباع الأجهزة كلها من داخلها وبواسطة رجالها أنفسهم، ويتسرّب إلى أفرادها باختيار الأساسي منهم وترجيح نفوذ الأطوع، وذلك لتتحرّك الإدارة الذاتية لكل جهاز من داخله، وبما يتناسب مع متطلبات السلطة المنفردة، فتقوم الواحدية المؤسسية للدولة حيث لا تسود الشخصنة فقط، ولكنها أيضًا تستلم الشرعية في المجتمع فتظهر لا بحسبانها مصدر القوة والجبروت فقط، ولكن بحسبانها أيضًا مصدر الشرعية في المجتمع كله".

عدم تحريم الفساد وتجريمه، بكل أنواعه وأشكاله وجوانبه ومجالاته، إنما هي مدخل لتمرير الفساد وتبريره

ومن أهم القضايا المرتبطة بمقولة "الفساد ظاهرة عالمية" وأخواتها من مقولات ما يمكن تسميته الخطاب حول الفساد وفساد الخطاب؛ أولى المقولات في خطاب الفساد أن الفساد ظاهرة قديمة، وقِدمها يعني حتميتها، إن كل المجتمعات، قديمها وحديثها، يعرف ظاهرة الفساد. ومع جانبٍ من صحة تلك المقولة، لا يضفي قدم الظاهرة عليها حجية في الوجود والانتشار أو الإبقاء عليها، وأن التقادم بصددها لا يحوّلها إلى "حق"، لأنها مضادّة لأصل الحق نفسه، وتكرّ عليه بنفيه ونقضه.

وقد يكون الفساد، بوصفه ظاهرة ترتبط بالاجتماع البشري والإنساني والسياسي، حتمي الوجود، فليست هناك من مجتمعات خالية منه، إلا في تصور بعض الفلاسفة المثاليين. وإذا كان الفساد حتمي الوجود، فأكثر حتميةً منه مواجهته ومقاومته ومكافحته. تدلّنا على ذلك سُنة التدافع الماضية الهادفة إلى التنبّه إلى مصادر الفساد وتتبع أشكاله. ومن هنا، كانت الإشارة من العلماء إلى أن الحقّ قديم، وأن الفساد لا يتقادم؛ بل لا بد من دفعه والتدافع معه. ومن هنا، وجبت إعادة صياغة هذه المقولة بما يقرّر الحق في الواقع لا بما يقرّ الفساد أو يمضيه، فالمقولة إذن: إن مقاومة الفساد تدافعًا من السنن الماضية في خلق الله والعلاقات فيما بينهم، مهما كانت قديمة في الواقع، أو حتمية في الوجود؛ فالقدم لا يعطي حجّية للفساد، والسنة القاضية الماضية هي التدافع، لا الوجود الحتمي للفساد في الواقع.

الفساد، في الجوهر، وجبت مقاومته من كل طريق وفي كل وقت، بل وجب أن تصحبه ثقافة إنذار وتنبُّهٍ تحرّك طاقات المجتمع لمواجهته

ويتلازم مع مقولة الفساد قديم؛ أن الفساد ظاهرة عامة وعالمية، وهي مقولة تتساند مع سابقتها، فإن كل كائن في كل مكان يستطيع أن يقول هذه الكلمة وهو صادق، والمشاهد تدلّ عليها والأخبار تتوفر في نقل حوادث الفساد وحالاته في كل الدنيا، وفي كل الدول، تقدّمت أو تأخرت، مع تفاوتٍ في درجة الفساد وحدّته. ويبدو أن الحجّة في هذه المقولة تكمن في توجيه النظر إلى انتشار الفساد وذيوعه هي الأخرى ولا تضفي حجّية على الفساد وجودًا أو استمرارًا، وعالمية الفساد وانتشاره دلالتان على خطورته تراكمًا وتأثيرًا. وبمقدار انتشاره وعمومه، وبمقدار عالميته، يجب أن تستنفر الجهود لمكافحته ومواجهته ومقاومته. إنها، على عكس ما يقصد بها من يريد أن يسوّغ للفساد وجودًا وانتشارًا، يجب أن تكون مقولة استنفارية في مواجهة الفساد ومكافحته. حشد الطاقات الفاعلة والمتكافلة يجب أن يكون مقصود هذه المقولة. ومن هنا، وجب تكملة هذه المقولة الصادقة لفتًا إلى المقصود منها بعد أن أُسيء استخدامها لترويج باطل الفساد، فالفساد ظاهرةٌ كلية وعامة وعالمية تستحق استنفار الجهود لمقاومتها على المستوى نفسه الذي تنتشر فيه الظاهرة، وأن الإصلاح يجب أن يكون كليًا وشاملاً وعامًا وعالميًا.

ومن جملة تبرير الفساد القول إنه يمكن أن يكون وظيفيًا، والفساد، بوصفه ظاهرة، يمكن أن يقوم بدور إيجابي في توازن المجتمع واستقراره. هذا بعضٌ مما تقول نظرية الوظيفيين: للفساد وظيفة، ليس هذا فحسب؛ بل وظيفة إيجابية، وأنه قد "يُصلح" (!) بعض الاختلالات المجتمعية، مثل إعادة توزيع الثروة. وبدلاً من الحديث عن ضرورات التدوير الصالح للمال والثروة، سنرى التدوير الفاسد للثروة، وأن لذلك أساليب مثل الرشاوى الصغيرة في الإدارة وغيرها من مؤسّسات. وهنا يصل الأمر إلى قمة "التعفن التنظيري" الذي ينظّر للمنفعة الحالية للفساد، ولا ينظر إلى ما يورثه من خرابٍ على المستوى العام، وما يعنيه من افتقاد أبعاد قيمية وأخلاقية تهدم عناصر شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية بين عناصر المجتمع المختلفة وقواه. وتحتاج هذه المقولة الفاسدة منا إلى ضرورة نسفها من الأدبيات النظرية، لأنها تجعل من الواقع الفاسد حجّة وحجّية تستندان إلى حساب المنافع الآنية، وربما الفردية والجزئية الضيقة، وتتأسّس على مصالح متوهّمة وزائفة.

الفساد ظاهرة تتعلق بتحوّل الشأن العام للجماعة إلى شأن خاص لفرد أو أفراد أو لجماعة صغرى

وهذه مقولة فاسدة أخرى، تشير إلى "نسبية الفساد"، حتى يمكن تمرير بعض أشكاله، وتسويغ بعض عناصره، وتسريب كثير من وسائله، والدعوى تقول "الفساد -ظاهرة وتعريفًا- ظاهرة نسبية تتأتى نسبيتها من اختلاف الثقافات، فما يعدّ فسادًا في مجتمع ما، أو ثقافة، لا يُعدّ كذلك في مجتمع آخر أو ثقافة مغايرة. وواقع الأمر أن هذه المقولة تخلط بين تعريف الفساد وبعض أشكاله، وفقًا لطور المجتمع وتطوّره وحجم معاملاته وعلاقاته؛ الفساد -تعريفًا وقيمة وجوهرًا- ليس إلا معنى سلبيًا مدمّرًا في جوهره وآثاره. ادّعاء النسبية "تمويه على أشكال الفساد"، فلا تكون فسادًا، ومن أفسد الفساد عشوائية الرؤية للظواهر تحت غطاء النسبية، وفوضى المواقف منها، وإمكانات تجزئة الظاهرة بما يدلّس عليها، وعلى المواقف القيمية والتقويمية منها.

وتتوج هذه المقولات بادّعاء فاسد، أن الفساد غالبًا ما يرتبط بأوضاع انتقالية، وأن تزايد الفساد وانحساره رهنٌ بتلك المرحلة الانتقالية، وفساد هذه المقولة يأتي من دعوى توقيت الفساد وارتباطه بالمرحلة الانتقالية، وفساد مفهوم "المرحلة الانتقالية" ذاته، والذي يعبر عن تسويغ شديد الخطورة لظاهرة الفساد وأشكالها. فالفساد، في الجوهر، وجبت مقاومته من كل طريق وفي كل وقت، بل وجب أن تصحبه منا ثقافة إنذار وتنبُّهٍ تحرّك طاقات المجتمع لمواجهته، مهما كان قليلاً أو مستصغرا، فإن معظم النار من مستصغر الشرر. أما عن مفهوم "المرحلة الانتقالية" الذي أطلق من غير حدِّ أو قيد، فإنه أحد عناصر الخطاب المسوّغ الفساد والاستبداد معا.. وتبدو كثير من أنماط السلطة المستبدّة تتحرّك صوب هذه المقولة التي تسوّغ وجود المفاسد والسلطات الفاسدة معًا، فإنه لا يخطر على بال كثير من هذه السلطات ما هي "المرحلة الانتقالية"؟! وما هي "مرحلة عنق الزجاجة"؟! وكأن المرحلة الانتقالية مستمرّة حتى يوم القيامة، أو أن الزجاجة ذات شكل عجيب: كلها عنق؟!

اتُخذ ذلك كله تسويغًا لوجود الفساد وتسويفًا في مقاومته، ونظن أن ذلك من جملة المقولات الفاسدة في الجوهر والغرض، وهي في حاجة إلى مراجعةٍ كليةٍ شاملة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".