في تعيين جزائرية مديرة معهد باستور بفرنسا
عيّنت الباحثة العالمية الجزائرية-الفرنسية، ياسمين بلقايد، ابنة وزير الداخلية الجزائري الأسبق، أبو بكر بلقايد، في 29 مارس/ آذار الماضي مديرة عامة لمعهد باستور (فرنسا) لست سنوات. وهي ثاني امرأة تتقلد إدارة المعهد الذي تأسّس سنة 1887، وستتسلم مهامّها في يناير/ كانون الثاني 2024.
بدأت ياسمين بلقايد مسيرتها العلمية في الجزائر، حيث حصلت سنة 1993على الماجستير في البيوكيمياء من جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا في الجزائر العاصمة، ثم التحقت بجامعة باريس، حيث حصلت على شهادتي دراسات معمقة والدكتوراه في علم المناعة عام 1996 من جامعة باريس الجنوبية ومعهد باستور. واستقرّت بعد ذلك في الولايات المتحدة باحثة، حيث التحقت سنة 2002 بمختبر المناعة النووية في مستشفى أوهايو، وتقلدت عام 2005 مهام إدارة وحدة المناعة في المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية، ثم شغلت وظائف علمية في المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية ومعاهد الصحة الوطنية الأميركية، وترأسّت منذ 2021 قسم مناعة المضيف والميكروبيوم. وقد نشرت الباحثة أكثر من 220 مقالاً علمياً عن العدوى والمناعة وعلم المناعة والجراثيم والتغذية، وحصلت على جوائز علمية عديدة، بالإضافة إلى عضويتها في لجان ومجالس علمية عالمية عديدة.
يمثل تعيين ياسمين بلقايد مديرة عامة لمعهد باستور في باريس تتويجاً طبيعياً لمسار أكاديمي وعلمي وبحثي، يجمع بين تجارب علمية نظرية وتطبيقية متعدّدة ومتكاملة، اكتسبتها الباحثة في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوربية أخرى. كذلك فإنه يُعَدّ تتويجاً لمسار علمي وأكاديمي ربط بين التطبيقات العامة للتجارب العلمية بالسياسات الصحية العمومية، لتجمع الباحثة بين الجانب الأكاديمي والجانبين العلمي والتطبيقي، يضاف إلى ذلك إتقانها عدة لغات.
لا يمكن تجاهل تأثير العوامل التي سبقت هجرة ياسمين بلقايد في تحديد مسيرتها العلمية، وخصوصاً تكوينها الجامعي في الجزائر
ولعل ما زاد من أهمية المسار العلمي والمهني للباحثة ياسمين بلقايد، تطبيقات أعمالها في تعزيز المناعة ضد العدوى وضد مسبّبات الأمراض الضارّة، وقد برزت هذه التطبيقات في دعم الإجراءات الوقائية خلال جائحة كورونا. ولعل ما يضفي الشرعية العلمية على تعيين ياسمين بلقايد على رأس معهد باستور، أنه جاء نتاجاً لعمل مؤسسي دام سنتين، قامت به لجنة توظيف عالمية برئاسة الألمانية Edith Heard المديرة العامة لمختبر علم الأحياء الجزئي الأوروبي في هيدلبرغ بألمانيا. والإشارة إلى هذا الأمر لتأكيد مكانة المحدّدات الموضوعية في مثل هذه التعيينات الأكاديمية والعلمية، بعيداً عن التعيينات بالتوصية، أو التي تقوم على الاعتبارات الذاتية والزبونية والانتماءات الضيقة التي حكمت وما زالت تحكم التعيينات، مهما كانت مستوياتها ومجالاتها، في بلداننا العربية.
ولا يمكن فصل تعيين ياسمين بلقايد عن دور خبراتها الإنسانية التي اكتسبتها من خلال هجراتها من الجزائر إلى فرنسا، ومن فرنسا إلى الولايات المتحدة، فمثل هذه الوظائف العليا تتطلّب اكتساب مهارات إنسانية متعدّدة كذلك، لأن المسؤولية ليست مجرّد إدارة لملفات بطريقة تقنية، بل هي حل لقضايا مجتمعية مختلفة، ما يتطلب اكتساب مهاراتٍ في هذا المجال. ولم تكن كل هذه الخبرات العلمية والأكاديمية والتطبيقية والإدارية واللغوية، بل حتى الإنسانية، لتكتسبها الباحثة لو بقيت في الجزائر. وبالتالي، سمحت لها هجرتها من أجل متابعة الدراسة في الخارج باكتساب كل هذه التجارب الدولية التي دفعت لجنة الاختيار إلى اختيارها مديرة عامة لمعهد باستور. لهذا، فالهجرة المنظّمة، كما تُسمّى في بعض الدوائر، أو الهجرة التي لها مشروع، هي التي جعلت ياسمين بلقايد تتألق في مجالها العلمي، وتصل إلى العالمية، ما عبّد لها الطريق لرئاسة معهد باستور. ولا يمكن تجاهل تأثير العوامل التي سبقت هجرة ياسمين بلقايد في تحديد مسيرتها العلمية، وخصوصاً تكوينها الجامعي في الجزائر، فعلى الرغم من كل التحدّيات والانتقادات التي تُوجّه إلى الجامعة الجزائرية، إلا أن هذه الجامعة هي التي ساهمت في بداية بروز الهوية العلمية والبحثية لخرّيجي التعليم العالي في الجزائر، الذين تعدّ ياسمين بلقايد منهم. وبالتالي، الهجرة إلى فرنسا بهدف الدراسة والالتحاق بمختبرات مختلفة، ساهما في إطلاق القدرات العلمية والبحثية لياسمين بلقايد وغيرها.
الهجرة فرصة حقيقية، وليست بالضرورة هدراً للقدرات البشرية، ولا سيما المتخصّصة
وهنا تطرح إشكالية مخرجات النظم التعليمية في الجزائر والدول العربية، وخصوصاً اقتصارها على التكوين، حيث إن التعليم العالي الذي وفر ولا يزال يوفر فرصاً تعليمية عليا لحوالى مليونين من الجزائريين ما زال عاجزاً عن توفير بيئة بحثية تساهم في بروز باحثين جزائريين في تخصّصات مختلفة، بل حتى المؤسّسات الاقتصادية العامة والخاصة عاجزة عن توفير بيئة بحثية تساهم في تطوير البحث العلمي في الجزائر وتوظيف قدرات الأجيال الجديدة من خرّيجي الجامعات الجزائرية لتأسيس نظام بحثي تنافسي وعلى كفاءة، ومنفتح على العلم العالمي، ويخدم مختلف الجوانب الحياتية للجزائر والجزائريين. لهذا، الهجرة فرصة حقيقية، وليست بالضرورة هدراً للقدرات البشرية، ولا سيما المتخصّصة. ولكن هذه الفرصة يجب العمل على توظيفها كي لا تصبح خسارة للبلاد وقطاع البحث ومختلف القطاعات الاقتصادية، من خلال ابتكار آليات مؤسساتية متنوعة من أجل العمل مع من يرغبون من الكفاءات المهاجرة في نقل معارفها إلى مجتمعاتها الأصلية في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، للمساهمة في الارتقاء بالبحث العلمي في الجزائر والدول العربية. ولا يمكن الاكتفاء بعملية حصر الكفاءات المهاجرة في قواعد بيانات صماء أو دعوة بعضهم لزيارة بلدهم الأصلي في مناسبات معينة، أو الاكتفاء ببعض مشاريع ربحية، بل يجب تنويع آليات الاستفادة من القدرات العلمية المهاجرة أو الشتات العلمي، بعيداً عن الحساسيات المفرطة والتناقضات بين الجماعتين العلميتين في الداخل والخارج، وذلك من خلال تنويع الشراكات، وذلك لتعدّد مجالات نقل المعرفة.
وهنا يجب الإشارة إلى بعض مبادرات اعتمدتها مؤسّسات جامعية وبحثية في الجزائر، من خلال إشراك باحثين جزائريين يقيمون في الخارج في لجانها العلمية أو دمجهم في مشاريع بحثية وطنية أو دولية. ويجدُر بنا التذكير بأن المراسيم التنفيذية لإنشاء المؤسّسات البحثية والجامعية تضع نسبة 25% من أعضاء المجالس العلمية معينين من الباحثين الجزائريين في الشتات. ولنا في تجربة مركز الكراسك بوهران أو مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي أو وكالتي البحث في العلوم الاجتماعية وفي الصحة وعلوم الحياة وغيرها من المؤسّسات الفاعلة أمثلة عملية ونماذج للتعميم.
عرفت الجزائر في العقود الثلاثة الأخيرة هجرة عشرات آلاف من خرّيجي التعليم العالي في تخصّصات علمية متعددة، ونتج من هذه الهجرات اكتساب جزائريين عديدين كفاءات وخبرات علمية وعملية دولية في مجالات متنوعة. وفي وسع هذه الخبرات إذا توافرت الظروف الموضوعية المساهمة في إعطاء دفع جديد للبحث في الجزائر، في تخصّصات عديدة، بل وحتى المساهمة في تطوير مجالات علمية واقتصادية اجتماعية حيوية عديدة.