عن أولويات عهدة تبّون الثانية
كما كان متوقّعاً، فاز الرئيس المُترشّح عبد المجيد تبّون بعهدة ثانية لرئاسة الجزائر، في الانتخابات التي أجريت في السابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، وأقرّ المجلس الدستوري نتائجها في 14 من الشهر نفسه بعد مدّ وجزر. فما أكثر الدروس أهمّية التي يمكن استخلاصها من هذه الرئاسيات؟ وما أولويات العهدة الثانية لرئاسة عبد المجيد تبّون؟
تُعَدُّ الانتخابات الرئاسية من بين أكثر المحطّات أهمّيةً في المسيرة السياسية للدول، لذا تنتهز الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والمثقّفون ومختلف مكوّنات المجتمع المدني لحظة الانتخابات، لتكثيف أنشطتها تعبيراً عن مواقفها السياسية، ومساءلة المُترشّحين عن برامجهم وتصوّراتهم المستقبلية. في الجزائر يختلف الأمر كلّياً، فباستثناء بعض اللافتات أو التجمّعات أو تجمهر بعضهم عند التمثيليات الولائية للمُترشّحين، لا شيء أوحى بانتخابات رئاسية، فلم يسبق رئاسيات 2024 أيُّ حوارٍ أو أيُّ نقاشٍ سياسي حرّ، بل إنّ جُلَّ الأحزاب السياسية التزمت الصمت، بما في ذلك الأحزاب الداعمة للمُترشّح عبد المجيد تبّون، فالنقابات كانت شبه غائبة، أمّا المثقّفون فلا صوت ولا وجود لهم، وأمّا وسائل الإعلام العمومية فانفردت بإنتاج خطاب أحاديٍّ لا يُعبّر عن الواقع الجزائري وتحدّياته. فالانتخابات الرئاسية بدلاً من أن تكون فرصةً لإيجاد حوار جزائري جزائري بشّأن مستقبل البلاد، أنتجت الصمت، لتفتقر بذلك الانتخابية الرئاسية إلى العامل الأساسي الذي أوجدها، والمتمثّل في المنافسة والنقاش السياسي.
في ظلّ هذا التصحّر السياسي، برز في أثناء الحملة الانتخابية فاعلان: الأول مؤسّساتي، وبرز من خلال وجود عبد القادر بن قرينة (رئيس حركة البناء الوطني) داعماً للمُترشّح تبّون، وتمثل الثاني في آراء الشارع الجزائري، التي عُبِّر عنها من خلال بثّ العديد من المقاطع العفوية والساخرة للجزائريين في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وشملت مواضع مُتعدِّدة تُشكِّل الانتخابات الرئاسية واحدة منها.
من أجل التوجّه نحو بناء علاقات سليمة بين المواطنين ومؤسّسات الدولة لا بدّ من إرادة سياسية تعمل على تطهير مؤسّسات الدولة من مختلف الممارسات الضارّة
ورغم حرص الدولة ومُؤسّساتها، وبعض الأحزاب، على إقناع الجزائريين بأهمّية المشاركة في رئاسيات 2024، إلّا أنّ الجزائريين قاطعوا مُجدَّداً هذه الانتخابات. مهما تضاربت الأرقام حول مستويات مشاركة الجزائريين في الرئاسيات، إلّا أنّ الملايين من الجزائريين قاطعوا رئاسيات 7 سبتمبر. والمشاركة الشعبية الواسعة هي أحد مُؤشّرات نجاح الانتخابات، ولا سيّما الرئاسية منها، ممّا يُعطي شرعيةً وشعبيةً أكبر للفائزين، لكنّ جلب المواطنين للمشاركة في الانتخابات لا يرتبط بقرار إداري فوقي، بل إنّه خيارٌ إراديٌّ يجمع بين خيارات المواطنين وقناعاتهم السياسية بجدوى أصواتهم. يضاف إلى ذلك أنّ إنجاح الانتخابات لا يتوقّف على توفير الإمكانات المادّية وتكثيف النداءات قبيل الانتخابات فحسب، بل إنّه يرتبط أكثر بتوفير الظروف السياسية المناسبة، التي تسبق الانتخابات.
ولعلّ ما أسهم كذلك في عدم مشاركة الجزائريين في رئاسيات 2024 هو بؤس المشهد السياسي، الذي قدّمه بن قرينة، الذي أوكلت إليه مهام تنشيط الحملة الانتخابية للمُترشّح عبد المجيد تبّون. بن قرينة، الذي افتقرت حملة مساندته إلى أساسيات الحملات الانتخابية، عجز في معظم الحالات عن امتصاص غضب الجزائريين، بل زاد من حدّة غضبهم، ليزيد أداؤه من تذمّر الجزائريين تجاه كل ما هو سياسي، بل ورسمي كذلك.
ما أولويات عهدته الثانية التي تمتدّ إلى 2029؟ ... يتبع تقليدياً انتخاب الرئيس، أو إعادة انتخابه، الدعوةُ إلى إعادة تشكيل الجهاز التنفيذي، إيذاناً بانطلاق مرحلة جديدة. في الحالة الجزائرية، لا يمكن اعتبار تكليف رئيس الوزراء الحالي، أو تكليف رئيس وزراء جديد، تشكيل حكومة جديدة أولويةَ العهدةِ الثانية، بل إنّ أولويات المرحلة المقبلة تشمل شقَّين أساسَين؛ السياسي والاجتماعي.
أوضاع اقتصادية دفعت الأسر الجزائرية إلى التورّط في الديون ممّا أفضى إلى تكريس الفقر في المجتمع
تُعدُّ ضرورة مراجعة طبيعة العمل السياسي أولى أولويات المرحلة المقبلة، لأنّ هذه المرحلة لا يمكنها أن تتحمّل تداعيات الاستمرار على منهج المرحلة التي مضت، ولعلّ من بين أكثر مرتكزات هذه المراجعة ضرورة الابتعاد عن إنكار (وتجاهل) الحقيقة في الخطاب السياسي، لأنّ إنكار الحقيقة لا يمثّل الحلّ، بل إنّ الحلّ يكمن في مواجهة الواقع وتحدّياته، لأنّ إنكار الأزمة لا يزيدها إلّا تعقيداً.
ويُشترَط في الشقّ السياسي، على المستوى الداخلي، إحداث قطيعة في طبيعة الممارسات المؤسّساتية والفردية التي تحكم العلاقة بين مؤسّسات الدولة والمواطنين، لا يمكن إنجاح أيّ سياسة تنموية أو عمل مؤسّساتي في ظلّ العلاقات الراهنة، التي تربط الجزائريين بمختلف مؤسّساتهم، هذه العلاقة غير السويَّة، التي أضرّت بمصداقية مؤسّسات الدولة ونزاهتها، تعيق المسيرة التنموية للجزائر. ومن أجل التوجّه نحو بناء علاقات سليمة بين المواطنين ومؤسّسات الدولة لا بدّ من إرادة سياسية تعمل على تطهير مؤسّسات الدولة في القطاعات الحكومية كلّها، ولا سيّما في القطاعات الحيوية كالعدالة والسكن والعمل والصحّة... من مختلف الممارسات الضارّة.
ولا تقتصر الأولويات السياسية على البعد المحلّي فقط، بل تشمل كذلك البعد الخارجي، من خلال الدعوة إلى مراجعات في السياسة الخارجية للجزائر، سواء على الصعيد المغاربي العربي الأفريقي والدولي، من دون التركيز في محور واحد أو في علاقات ثنائية معيّنة. مراجعات من شأنها أن تُخفّف من حدّة التوتّرات مع الجوار القريب والبعيد، وتسهم في فتح صفحات جديدة في العلاقات الخارجية للجزائر.
من أولويات العهدة الثانية، تحسين الظروف المعيشية اليومية للجزائريين، سيّما العمل لرفع قدراتهم الشرائية
الموقع الاستراتيجي للجزائر يفرض عليها (أكثر من جيرانها) أن تبادر من أجل بناء علاقات خارجية جديدة بغية التحكم في المخاطر والتحدّيات الخارجية، التي تحيط بدول المنطقة (المغرب العربي/ العالم العربي والجوار الأفريقي)، وذلك لوجود تحدّيات إقليمية مُتعدّدة. هذه التحدّيات تتطلّب حلولاً إقليميةً لا يمكن إيجادها دوماً من خلال الاستعانة بالبعيد، بل إنّها تُولَد من رحم مجتمعات المنطقة حصراً.
أمّا الشق الثاني من أولويات العهدة الثانية، الذي لا يقلّ أهمّيةً عن الشقّ السياسي، فإنّه يتعلّق بالجانب الاجتماعي الاقتصادي المرتبط بتحسين الظروف المعيشية اليومية للجزائريين، ولا سيّما العمل على رفع قدراتهم الشرائية من أجل تحقيق العيش الكريم واللائق لغالبية الجزائريين. إنّ ارتفاع الأسعار يوماً بعد يوم أنهك الأسر الجزائرية ذوات الدخلين المحدود والمتوسّط، خاصّة مع صعوبة تحقيقها لمداخيل تُؤهّلها لتلبية احتياجاتها. أوضاع اقتصادية دفعت الأسر الجزائرية إلى التورّط في الديون ممّا أفضى إلى تكريس الفقر في المجتمع.
حاولت الدولة من خلال تدابير مختلفة مثل منحة البطالة، التي استفاد منها مئات آلاف من الجزائريين، تخفيفَ الأعباء الاقتصادية على الأسر، لكنّ هذا يبدو غير كافٍ لتأمين مداخيلَ شهريةٍ للأسر تسمح لها بحفظ ماء الوجه. ولا يمكن فصل رفع القدرة الشرائية عن توفير فرص عمل جديدة للباحثين عن العمل والعاطلين، من مختلف الفئات، لأنّ آليات الدعم، وإنْ تنوّعت، لا يمكنها أن تكون البديل من إيجاد فرص عمل دائمة توفّر رواتبَ تُغطِّي احتياجات الجزائريين.