تلك الرغبات العربية بالانضمام إلى بريكس

16 يونيو 2023

(Getty)

+ الخط -

العالم في حركية وتشكُّل مستمرّين، ولعل من بين ملامح تشكّل العالم اليوم سعي بعض الدول إلى التحرّر من الهيمنة الغربية، والتوجّه نحو عالم متعدّد الأقطاب. ومن أجل تجسيد مقوّمات نظام عالمي متعدّد الأقطاب، عقد رؤساء البرازيل وروسيا والهند والصين في يكاترينبورغ بروسيا في يونيو/ حزيران عام 2009 أول اجتماع لهم للإعلان عن ميلاد مجموعة بريكس، التي توسّعت عام 2010 بالتحاق جنوب أفريقيا. تتعاون دول "بريكس" التي لها أنظمة سياسية واقتصادية مختلفة، ولا تربطها الجغرافيا ولا التاريخ ولا اللغة ولا الأيديولوجيا، في ما بينها بشكل فعّال ممثلة قوة اقتصادية ناشئة، بلغت نسبة مشاركتها من الاقتصاد العالمي 31%. وقد تولّدت عن نمو مشاركة اقتصاديات بريكس في الاقتصاد العالمي رغبة دول عديدة بالانضمام إلى هذا التجمّع، لإسماع صوتها وموقفها بشأن الحوكمة العالمية، ولا سيما الهيمنة الأميركية. لقد تلقت مجموعة بريكس حوالي 30 طلب انضمام من دول مختلفة، منها طلبات دول عربية، كالجزائر ومصر والسعودية والإمارات والبحرين وتونس. فما هي دلالات رغبة هذه الدول العربية بالانضمام إلى "بريكس"؟ هل يرتبط هذا بالرغبة في إيجاد بدائل لعدم فاعلية المؤسّسات الإقليمية العربية، أم أن رغبة الانخراط هذه تعبّر عن إرادة حقيقية لبعض الدول العربية المساهمة في إعادة تشكيل العلاقات الدولية، أم أن انخراط الدول العربية في بريكس يعبّر عن سعي الدول العربية للبحث عن فضاءات تبادل جديدة بعيدة عن فضاءات التبادل التقليدية؟

تمثل المنظمات أو التكتلات الدولية والجهوية أحد الفاعلين المباشرين في العلاقات الدولية، وهو ما برّر ارتفاع أعدادها في العقود الأخيرة في مختلف المناطق، بما في ذلك في دول الجنوب الكبير: إن عدد المنظمات (التكتلات) الدولية والجهوية يقدّر اليوم بأكثر من ثلاثمائة بعد أن كان لا يتجاوز هذا العدد مائة عام 1950، وترتب عن ارتفاع أعداد المنظمات (التكتلات) الدولية والجهوية انخراط الدول في عديد منها. وفي المنطقة العربية، تتعدّد، بصفة استثنائية، الانتماءات الإقليمية والجهوية للبلدان العربية، لتشمل فضاءات وتكتّلات متعدّدة. وتتدخّل في تشكيل الانتماءات الجهوية والدولية للبلدان العربية جملة من المحدّدات، في مقدّمها العروبة من خلال انخراط الدول العربية في جامعة الدول العربية، أو من خلال تأسيس تكتّلات جهوية في ما بين الدول العربية، كمجلس التعاون لدول الخليج العربية واتحاد المغرب العربي.

ولعبت الجغرافيا دورا مركزيا في تحديد بنية الانتماءات الإقليمية للدول العربية، حيث ترتب عن وجود الدول العربية في أفريقيا وآسيا انخراط الدول العربية في المؤسّسات الأفريقية والآسيوية على حد سواء، ففي أفريقيا تجسّد الانتماء الأفريقي للدول العربية من خلال انضمام كل الدول العربية إلى الاتحاد الأفريقي، أما الدول العربية الآسيوية فإنها تساهم في فضاءات آسيوية عديدة، كحوار التعاون الآسيوي الذي تأسس عام 2002، والذي يضمّ كل الدول الخليجية. ويمثل الفضاء المتوسطي أيضاً مجالا حيويا للوجود الإقليمي للدول العربية، من خلال انضمام الدول العربية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط في أنشطة الاتحاد من أجل المتوسط.

ويساهم العامل الديني أيضاً في تشكيل بنية الانتماءات للدول العربية، من خلال انضمام كل الدول إلى منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا) منذ تأسيسها عام 1969. وانخرطت الدول العربية أيضاً في تكتلاتٍ سياسيةٍ مختلفة، كحركة عدم الانحياز ومجموعة الـ77 ومنظمة الدول المصدرة للنفط، تضاف إلى ذلك عضوية كل الدول العربية في مؤسسات الأمم المتحدة في أفريقيا وآسيا.

المصالح الاقتصادية ليست البُعد الوحيد لجاذبية "بريكس"، بل هنالك اعتباراتٌ استراتيجية للجغرافيا السياسية أيضاً

عملت الدول العربية على الانخراط في منظمات دولية وإقليمية وجوارية أو بعيدة متعدّدة، وذلك دعما للسياسة الخارجية لكل دولة. لهذا يمكن اعتبار رغبة الدول العربية بالانخراط في "بريكس" جزءا من مسار وجود الدول العربية في المنظمّات والتكتلات الدولية. هذا الوجود الذي هو دوما في تشكّل مستمرّ، تماشيا مع مصالح الدول وتوجهاتها وعلاقات الدول العربية بمختلف الدول والأقاليم. ولا يمكن التقليل من حجم الإخفاقات في توسيع جغرافية شراكات الدول العربية مع تكتّلات دولية أو إقليمية، وخصوصا تعطيل مؤسّسات عربية عديدة، وتراجع مختلف أنواع التبادلات في ما بين اقتصاديات الدول العربية. ولا يمكن التقليل أيضاً من دور تحوّلات علاقات الدول العربية مع الدول الكبرى في مراجعة الدول العربية خريطة علاقاتها الدولية، والبحث عن شركاء جدد وفضاءات تبادل جديدة.

ولا يمكن فصل رغبة انضمام بعض الدول العربية إلى "بريكس" عن حجم الفرص التي تتيحها إقامة علاقات اقتصادية جديدة مع دول فاعلة اقتصاديا، بما في ذلك إعطاء دفع جديد لاقتصاديات الدول العربية، بل وحتى لاقتصاديات المنطقة العربية.

ولا تقتصر المنافع المرجوّة من انضمام بعض الدول العربية إلى بريكس على الدول العربية الراغبة، بل يخدم توسّع مجموعة بريكس أيضاً المجموعة نفسها، حيث سيعزّز ثقلها على الساحة الدولية وسيساعدها على تحقيق هدفها في إقامة عالم متعدّد الأقطاب، والتقليل من الهيمنة التي يمارسها الغرب. لهذا، تسعى "بريكس" التي تريد أن تكون بديلاً موثوقًا به في النظام الاقتصادي العالمي الحالي إلى توسيع عضوية المجموعة إلى دول واقتصاديات جديدة، ولا سيما مع دول ذات موقع استراتيجي وقوة اقتصادية كالدول الرئيسية المنتجة للنفط مثل السعودية والإمارات والجزائر، وذلك لتعزيز سيطرة "بريكس" على إنتاج النفط العالمي. يضاف إلى ذلك أن انضمام بعض الدول إلى "بريكس" يؤدّي إلى تحويل القوة المالية العالمية نحو الشرق وإنشاء نظام عالمي جديد يفقد فيه الدولار مكانته عملة احتياطية في العالم.

يجب أن ترتبط رغبة انضمام بعض الدول العربية إلى "بريكس" بالعمل على بلورة رؤيةٍ مستقبليةٍ تحدّد أدوار مساهمة الدول العربية

ولكن المصالح الاقتصادية ليست البُعد الوحيد لجاذبية "بريكس"، بل هنالك اعتباراتٌ استراتيجية للجغرافيا السياسية أيضاً. فعلى سبيل المثال، يُعدّ التعاون مع الصين وغيرها من أعضاء "بريكس" توجها مرحبًا به للدول العربية ودول الشرق الأوسط لأسباب مختلفة، من بينها العلاقات المعقدة لدول عربية عديدة مع الغرب. لكن هذا لا يعني أن رغبة انخراط بعض الدول العربية للمجموعة هي رفض مطلق للغرب، بل إنها تمثل الرغبة في بناء جسور مع قطبي الانقسام الجيوسياسي العالمي. وسيحقّق انضمام الدول العربية لـ"بريكس" منافع متعدّدة، منها المشاركة في المنافسة الجيوسياسية العالمية، والتقليل من حدّة الأزمات الاقتصادية والتخلص من حدّة بعض القيود المفروضة على الدول العربية.

مبرّرات انضمام الدول العربية لمجموعة بريكس متعدّدة، لكن السؤال المطروح: ما هي الأدوار المستقبلية للدول العربية في هذه المجموعة؟ وما هي مجالات مساهمة اقتصاديات الدول العربية في النمو المستقبلي لاقتصادياتها؟

يجب أن ترتبط رغبة انضمام بعض الدول العربية إلى "بريكس" بالعمل على بلورة رؤيةٍ مستقبليةٍ تحدّد أدوار مساهمة الدول العربية في المجموعة، ورؤية تتعدّى سوق الطاقة والاستثمارات. تضاف إلى ذلك ضرورة التوفيق بين احتياجات الدول العربية وبرامج "بريكس" المستقبلية، والتركيز على الاحتياجات والأولويات التنموية للدول العربية، خصوصا ما يرتبط بالصناعة ونقل المعرفة والمهارات والتكنولوجيا، كي لا تتحوّل الدول العربية إلى أسواق مفتوحة أكثر وأكثر على مختلف أنواع السلع والبضائع القادمة من دول بريكس. لذا يجب ألا ينحصر انضمام بعض الدول العربية لمجموعة بريكس إلا على حجم التبادلات وأنواعها، بل يجب أن يتعدّاه ليشمل المساهمة في صياغة ملامح نظام عالمي جديد والدور المستقبلي للعرب في هذا النظام الجديد.