في تداعيات خطاب سعيّد عن المهاجرين

06 مارس 2023
+ الخط -

مرّ ما يقارب أسبوعاً على تصريحات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، المسيئة لمهاجري جنوب الصحراء، من دون مبرّرات أو أسباب موضوعية وحجج راسخة، ولم تهدأ بعد موجات ردود الأفعال المتلاحقة. وهي تتوزّع ما بين الرفض المبدئي والتفهّم النسبي الداعي إلى التريث وعدم التصعيد. وقد فشلت جملة من التوضيحات الرسمية.
كان يمكن لخطاب سعيّد أن يظل حبيس جلسات مجلس الأمن القومي التي عادة تكون مغلقة، غير أن الرئيس يصرّ على أن  ينشر جزءاً منه كالعادة على صفحة الرئاسة في "فيسبوك"، وتبثّ التلفزة العمومية مقاطع منتقاة بعناية، ليثبت أنه متحكّم في الوضع، مسنوداً من أركان القوة الصلبة في البلاد. وكان يمكن لسعيّد أيضاً، كما تفعل جل الأنظمة المناهضة للهجرة إلى الدول الأوروبية، أن يفوّض أحد وزرائه، حتى يقول ذلك الكلام الذي كانت مفردات عديدة فيه نافخةً بمشاعر الكراهية تجاه المهاجرين الأجانب، فضلاً عن النظر إلى الهجرة مؤامرة تحاك ضد تونس. وكان تفويضٌ كهذا فرصة حتى يعدّل الرئيس لاحقاً، وقدر الإمكان، تلك المواقف، أو حتى ينقلب عليها أصلاً، وقد فعل ذلك في مواطن عديدة سابقاً، غير أنه حرص على أن يكون اللاعب الوحيد والأوحد، حتى ولو كانت الملاعب مهجورة والرهانات صغيرة.
عادة ما تُترك هذه المسائل  لوزير الداخلية أو الخارجية، فهما المشمولان من حيث وظيفتهما بها، فأكثر القوانين تشدّداً في إيطاليا أو فرنسا، على سبيل المثال، تحمل أسماء وزيري الخارجية أو الداخلية، مثل قانون باسكوا (وزير الداخلية الفرنسي 1986 - 1988)، قانون ماتيو سالفيني (وزير الخارجية الإيطالي 2018-2019).

اعتبر قيس سعيّد الهجرة محاولة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد التونسية

سارع اليميني المتطرّف الذي ترشّح للرئاسيات في الانتخاب الفرنسية إريك زيمور مباشرة إلى الثناء على خطاب سعيّد، واعتبره نموذجاً يُحتذى، وأشاد به. والحال أن الهجرة ظاهرة تتفاقم منذ عقود لأسباب موضوعية: الفقر والتهميش والبطالة التي تضرب بلداناً أفريقية عديدة، ومنها تونس التي يستعمل أراضيها سنوياً عشرات آلاف الشبان للعبور باتجاه إيطاليا. ومع تشدّد السياسات الأوروبية ومشاركة تونس في جهودها في "مكافحة الهجرة السرّية"، أصبح بقاؤهم في تونس يطول نسبياً. وارتفعت أعدادهم مع اندلاع عدة حروب أهلية، من دون نسيان التغيرات المناخية الحادّة أيضاً، وهذا كله يتناقض مع فكرة المؤامرة. 
اعتبر قيس سعيّد الهجرة محاولة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد التونسية، والحال أن عدد من تحدث عنهم، حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة، وهما مؤسّستان رسميتان موثوق بهما، لا يتجاوز 50 ألفاً، وهو عدد ضئيل جداً، لا يمكن أن يغيّر هذه التركيبة، فكيف يمكن أن نتصوّر ردود أفعال سعيّد لو كان رئيساً لألمانيا، التي استقبلت وحدها ما يناهز مليون مهاجر/ لاجئ سوري، ولم تقل هذا الكلام الخطير. ومع ذلك كله، رحّبت إيطاليا، على لسان وزير خارجيتها، أنطونيو تاياني، بهذه الإجراءات، متوعّدة بأن تلاحق في عرض سواحل المتوسط الشبكات المسؤولة عن ذلك. وأثنت رئيسة وزراء إيطاليا، اليمينية الشعبوية جورجيا ميلوني، على الجهود التونسية في هذا المجال، ووعدت نظيرتها التونسية، نجلاء بودن، بالوقوف إلى جانبها في مساعي إقناع صندوق النقد الدولي بالمساهمة في حل معضلات البلاد المالية بعد تلكؤه المستمرّ. وكان صمت الدول الأوروبية الأخرى، بشكل أو بآخر، تواطؤاً مع كل ذلك الخطاب المناهض للمهاجرين، والذي تطوّع أن يكون صدّاً لجحافل المهاجرين التي كانت تعبر إلى أوروبا، فبهذه المواقف تنخرط تونس في شراكة فعّالة في مكافحة الهجرة التي تزعج الأوروبيين تحديداً. وقد وقّعت تونس عدة اتفاقيات ترحيل مهاجرين مع كل من إيطاليا وألمانيا وغيرهما، بكثيرٍ من السذاجة وبالمجّان أحياناً، في حين رفضت الجزائر مثلاً ذلك.

حرّض اعتبار المهاجرين مجرمين ضمنياً على الاعتداء عليهم

أما اعتبار الهجرة محاولة لسلخ تونس من هويتها العربية والإسلامية، للاقتصار على الهوية الأفريقية، فتونس هي التي منحت اسمها القديم أفريكا إلى القارّة. على خلاف ذلك، علينا أن نستعيد هذا البعد الغائب. وكانت أيام تظاهرة أيام قرطاج السينمائية العريقة خطوةً في هذا الاتجاه. ولكن يبدو أن تونس، في هذا الخطاب، حادَت عن مكوّن أساسي من مكونات هويتها التي أشارت إليها الدساتير التي عرفتها منذ استقلالها. وها هو وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، يطالب نظراءه، قبل أيام قليلة، في اجتماع مجلس وزراء الداخلية العرب في تونس، بمساندة بلاده "إثر تعرّضها لهجمة غير مسبوقة ناجمة عن موقفها من الهجرة غير النظامية"، في إشارة ضمنياُ إلى مواقف الاتحاد الأفريقي والمفوضية الأفريقية التي ندّدت بتصريحات سعيّد، مشيرة أيضاُ إلى خطورة ما تعرّض له الأفارقة هناك من انتهاكاتٍ خطيرةٍ مسّت من حقوقهم الإنسانية أصلاً. كما لا يمكن إغفال أن دولاً أفريقية أرسلت طائرات لإجلاء جالياتها، كغينيا وساحل العاج.. إلخ. وقد حرّض اعتبار المهاجرين مجرمين ضمنياً على الاعتداء عليهم. وقد ذهلنا من حجم الشتيمة العنصرية وخطاب الكراهية الذي طفحت به شبكات التواصل الاجتماعي.
حاولت السلطات الرسمية التونسية أن تتدارك، ولكن بعد فوات الأوان. لقد أحرجتها ردود الأفعال الدولية. وقد شوّهت تلك المواقف سمعة تونس، وكان لها الضرر البالغ على مصالحها: آلاف الطلبة الذين يقصدون جامعاتها، ومثلهم أيضاً من المرضى، لن يختاروا الوجهة التونسية للتعليم والتداوي. ثمّة ضررٌ فادح أصاب صورة البلاد ومصالحها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.