في بيوغرافيا خبراء القصر وكتابة الدستور التونسي الجديد
يتعلق الأمر بصفة رئيسية بالخبيرين القانونيين، الصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى، اللذين التقى بهما الرئيس التونسي، قيس سعيد، يوم الأحد 1 مايو/ أيار الجاري، في قصر قرطاج، و"تناول اللقاء جملة من المحاور المتعلّقة بالدستور القادم لتونس الذي سيتمّ إعداده ثمّ إقراره عن طريق الاستفتاء في الموعد المحدد يوم 25 جويلية (يوليو/تموز) 2022"، وفق البلاغ (البيان) المنشور على صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على "فيسبوك". وبالرغم من أن الرئيس أعلن الأربعاء، 4 مايو/ أيار الجاري، في أثناء لقاء ثان جمعه مع بلعيد عن نيته بعث "لجنة وطنية لتأسيس جمهورية جديدة" تنقسم إلى فرعين، يتولّى الأول الإصلاحات الدستورية والسياسية، وينظر الثاني في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، على أن يكون دور هذه اللجنة استشاريا محضا، فقد بات معلوما لدى المجتمعين، السياسي والمدني، ومختلف الفاعلين الإعلاميين والقانونيين والأكاديميين، وخصوصا لدى أساتذة القانون في مختلف الجامعات التونسية، أن العميدين السابقين، بلعيد وبن عيسى، هما العمود الفقري لهذه اللجنة التي ستحبّر المسوّدة الأولى للدستور الجديد قبل أن يصوغها نهائيا رئيس الجمهورية التونسية ويقدّمها في أيام معدودات، كما أشار إلى ذلك هو بنفسه، ثم إقرارها بواسطة الاستفتاء الذي سينظّم يوم 25 يوليو/ تموز المقبل، على قاعدة ما ورد في الفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 الذي جاء فيه "يتولى رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي".
لم تحفظ أرشيفات الحركة الطلابية التونسية منذ نشأتها أوّل مرة سنة 1910، وهي من أبرز الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في العالم، التي نشّأت قيادات من مختلف المشارب الفكرية والتيارات السياسية الدستورية والقومية العربية واليسارية والإسلامية للعب أدوار حزبية ومدنية ونقابية، وتولي وظائف متقدّمة في الحكومات أو في المعارضات، لم تحفظ أي دور في صفحاتها لكل من بلعيد وبن عيسى، ولم يرد اسماهما في كتاب المؤرّخ محمد ضيف الله، وهو المرجع الأهم في التأريخ للزعامات الطلابية بعنوان "تراجم الناشطين في الحركة الطلابية التونسية 1910-1991" من ضمن 656 ناشطا طلابيا مؤثرا، رغم أنهما عاشا شبابهما الطلابي في إحدى أهم فترات الاحتجاج الطلابي، عشرية الستينيات. كما لم يوثق تاريخ التنظيمات والأحزاب السياسية في أثناء فترتي حكم الرئيسين السابقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، أي ممارسة سياسية معارضة لكلا الرجلين، ما عدا إشارة يتيمة لبن عيسى عندما قدّم نفسه في ندوة نقاشية عن اليسار التونسي انعقد سنة 2017 بأنه يساري مستقل، أو ما يجري تداوله عن الصادق بلعيد من أنه كان قريباً من مناصب وزارية بعد تولي عمادة كلية الحقوق بتونس 1971-1977 على غرار صديقه وزميله في التدريس الجامعي والعمادة بكلية الحقوق وزير العهدين (بورقيبة وبن علي) المخضرم عبد العزيز بن ضياء، لولا فشله في قضية الجرف القاري الدولية التي حرمت تونس من ثروة نفطية هامة.
الصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى هما العمود الفقري للجنة التي ستحبّر المسوّدة الأولى للدستور التونسي الجديد قبل أن يصوغها نهائياً سعيّد
لكنّ اللافت للانتباه في مسيرتي الرجلين انتماؤهما إلى العشرية التي وصفت بالسوداء ومساهمتهما فيها وبروزهما في ثناياها ومحطاتها السياسية المختلفة التي بدأت يوم 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011 بهروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وانهيار سلطته ونظامه، وتوقفت يوم 25 جويلية 2021 باتخاذ الرئيس قيس سعيّد قرارات مكّنته من الاستفراد بجميع السلطات واحتكارها لنفسه بعد التعسّف على الفصل 80 من الدستور وإخضاعه لتأويل قسري، وإنطاقه بما لا ينطق به، قبل استبداله بالأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 الذي سيستحيل نظاماً مؤقتاً للسلطات العمومية يعوّض الدستور التونسي لسنة 2014 ويحلّ محلّه.
نفضت الثورة التونسية سنة 2011 الغبار العالق ببلعيد وبن عيسى من طول مكوثهما في الدهاليز الأكاديمية وعدم الاختلاط بعامة الناس والخوض في قضايا الشأن العام مع مختلف النخب السياسية، بعد أن اجتباهما زميلهما عياض بن عاشور للعب دور سياسي إثر هروب بن علي. تنبئ يوميات الثورة التونسية بأن الصادق بلعيد الذي ناقش سنة 1970 أطروحة دكتوراه في الجامعة الفرنسية عن صلاحيات القاضي في ابتداع القواعد القانونية ووضع المعايير كان عضوا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي (15 مارس/ آذار 2011 - 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2011)، وهي المؤسسة التشريعية المؤقتة التي عوّضت المجلس التشريعي التونسي بغرفتيه، ووضعت مراسيم كان لها كبير الأثر في تحديد ملامح الدولة التونسية بمجتمعيها، السياسي والمدني، خلال العشرية المنقضية، ولا تزال بعض تلك النصوص مرجع النظر الوحيد المعتمد من الحكومات المتعاقبة. وعلى تلك الأرضية تقدّم بلعيد إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 رئيسا لقائمة "الوفاء" بالدائرة الانتخابية لولاية بن عروس، وتحصّل على 4391 صوتاً، ما حال دون فوزه بمقعد. ويعكس هذا الترشّح اقتناع أستاذ القانون بالمسار التأسيسي، قبل أن يتحوّل إلى أحد ألدّ أعداء مخرجاته الدستورية والسياسية. لم يكن بلعيد بعيدا عن بلاط قصر قرطاج إبّان حكم الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس 2014-2019، وفق القواعد التي ضبطها دستور 27 جانفي، فقد كان يستشيره بصفة منتظمة، خصوصاً ما يتعلّق بمشروع قانون المصالحة الإدارية لسنة 2015، المبادرة التشريعية الأهم التي تقدّمت بها رئاسة الجمهورية التونسية إلى مجلس نواب الشعب، بناء على ما جاء في الفصل 62 من الدستور، بهدف العفو العام عن موظفين أسهموا في فساد إداري قبل ثورة 2011، ورغم المصادقة عليه سنة 2017، لقي هذا القانون معارضة قوية داخل البرلمان ومن الاتحاد العام التونسي للشغل. وتشير السيرة الذاتية المنشورة لبلعيد إلى أنه كان من الموقّعين على اتفاق قرطاج الذي أنهى ولاية حكومة الحبيب الصيد سنة 2015، لكنه عارض تولي يوسف الشاهد رئاسة الحكومة التونسية، لتنقطع العلاقة مع قصر قرطاج بعد انتقاده نجل الرئيس حافظ قائد السبسي.
الجديد بما هو فكر وإبداع وتأويل وفلسفة حكم مختلفة عمّا سبق لا ينتجه أصحاب فكر قديم
وفي مسيرة أقرب إلى مؤسسة الحكم بعد سنة 2011، ورد اسم محمد صالح بن عيسى، أستاذ القانون العام العميد في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس 2002-2008، في قائمة اللجنة العليا للإصلاح السياسي برئاسة عياض بن عاشور، التي أعلن عنها الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، قبل هروبه إلى السعودية، ونشرت حكومة محمد الغنوشي قائمة أعضائها يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، ثمّ غُيّرت تركيبتها واسمها لتصبح الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، مع تولي رئاسةَ الحكومة الباجي قائد السبسي الذي سيعيّن بن عيسى كاتباً عاماً للحكومة (يوليو – أكتوبر 2011)، ثم يختاره وزيرا للعدل والشؤون العقارية في حكومة الحبيب الصيد سنة 2015، ويقيله على خلفية تصريحاته عن ضرورة تغيير الفصل 230 من المجلة الجزائية المجرّم للمثلية الجنسية وقانون المجلس الأعلى للقضاء والحديث أمام إحدى اللجان البرلمانية عن ضغوط يمارسها السفير الأميركي في تونس من أجل إقرار قانون منع الاتجار بالأشخاص ومكافحته لسنة 2015.
تحرم هذه المعطيات السِيرية اللجنة التي أمّنها سعيد على كتابة الدستور الجديد من أي مصداقية، فالجديد بما هو فكر وإبداع وتأويل وفلسفة حكم مختلفة عمّا سبق لا ينتجه أصحاب فكر قديم لم يعطوا أي إشارة تدلّ على مواكبتهم الفكرية والنظرية التي يشهدها العالم، وخصوصا الشباب، كانوا جميعا جزءا من التجربة السياسية والدولة والحكم لعشر سنوات خلت، بمن في ذلك الرئيس سعيّد الذي استفاد أيما استفادة من العشرية "السوداء" إلى درجة تحقيق حلم كان أقرب لليوتوبيا، وهو تولي رئاسة الجمهورية، ثم وأدَ نصوصها الكبرى وقوانينها الأساسية، واستأثر بالحكم.
لن يكون بلعيد الذي دخل العقد التاسع من عمره وزميله بن عيسى الذي ناصف عقده الثامن ومكّنه الرئيس سعيد من إكرامية تولي خطة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية رئيس فرع تونس منذ سنة 2020، رغم خلفيته الفرنكفونية غير المتجانسة مع وظيفته الجديدة، سوى ديكور في لجنة من الخبراء الدستوريين، ستضع دستورا حدّدت ملامحه العامة الاستشارة الوطنية التي لم يشارك فيها سوى 5% من التونسيين، الغاية منه بلورة النظام القاعدي، القائم على إنهاء الوساطة والتمثيلية التي تتولاها الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمنظمات النقابية الكبرى، الذي يبشّر به الرئيس قيس سعيّد، والعودة إلى النظام الرئاسي لإضفاء الشرعية على سلطات الرئيس الواسعة التي كانت دائما، في تاريخ تونس المعاصر، مدخلا إلى الهيمنة والاستبداد وقمع الحريات وهضم الحقوق والاستفراد بالسلطة ومنع التداول السلمي على ممارستها.