في اليوم العالمي لحرية الصحافة
يحيلنا الجدال والضجيج اللذان أثارهما شراء الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، شركة تويتر، إلى اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف في الثالث من مايو/ أيار، منذ أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1993، ويجري الاحتفال به هذا العام تحت شعار "صحافة قابعة تحت حصار رقمي"، في محاولةٍ لطرح قضية حيوية وراهنة للنقاش واتخاذ التوصيات، وهي تأثير العصر الرقمي في حرية التعبير وسلامة الصحافيين، والحصول على المعلومات ومسألة الخصوصيّة. ويعود التاريخ إلى مؤتمر عقدته منظمة اليونسكو في ويندهوك لتطوير صحافة حرّة ومستقلّة وتعدّدية، يوم الثالث من مايو/ أيار عام 1991، فهل يوجد في العالم اليوم حرية تعبير جديرة بأن تمثّل الإنسانية في عصرنا الحالي، عصر الحقوق؟
لا يمكن لمن يتابع أخبار العالم وأحواله اليوم إلّا أن ينتبه إلى أن الصحافة والصحافيين ليسوا بخير، وإذا تابعنا التقارير التي تصدرها جهات مهتمة، كمنظمة مراسلون بلا حدود مثلًا، عن حال الصحافة، لرأينا أن القيود على حرية الصحافة تزداد في العالم أجمع، بدرجات متفاوتة بالطبع، وأن أكثر الديمقراطيات رسوخًا وحضورًا تتخذ إجراءاتٍ فيها أحيانًا تقييد لحرية الصحافة، ولقد لمسنا جانبًا منها في الاتهامات والإجراءات المتبادلة حول بعض المؤسسات الإعلامية وحجبها بين روسيا والدول الأوروبية في الشهور الأخيرة. وفيما يتعلّق بالبلدان العربية، فغالبيتها تقيّد الصحافة والصحافيين، بل في بعض منها هناك مخاطر كبيرة على حياة الصحافيين. وقد جاء في تقرير "مراسلون بلا حدود" عن عام 2021 أن الدول العربية في المراتب الأخيرة من حيث القائمة، فيما يتعلّق بحرية الصحافة.
صار من الصعب الإبقاء على بعض المفاهيم، نزيهةً أو مثالية، كالحرية والديمقراطية، بعد أن صار العالم محكومًا بديكتاتورياتٍ ماكرة
في عصرنا الحالي، صارت الحدود غائمة بين الصحافة بشكلها التقليدي والميديا المتنوعة، خصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، كتويتر وفيسبوك، حيث المعايير الناظمة والإجراءات المتبعة لضبط المحتوى تقوم بها الشركتان، وهي تحظى بأعداد من المتابعين والرواد لا يمكن مقارنة متابعي أهم منبر تقليدي بها، وإذا كانت أهم القضايا التي تسعى إلى ضبطها أو منعها هي المتعلّقة بخطاب الكراهية أو التحريض على العنف، فإن المجال يبقى مفتوحًا لكل أشكال التضليل وأساليبه، في هذا البحر الكبير من روّاد الموقع، ومن كل أنحاء العالم، وليس أكثر من التقنيات المتاحة حاليًّا، بفضل الثورة الرقمية التي صارت من أدوات الأنظمة السياسية من جهة، وغيرها من أنظمةٍ تتغلغل في المجتمعات وتمارس سطوتها، عدا الممارسات الفردية لبعض الأشخاص المهووسين بتجريب مواهبهم وميولهم في هذا المجال، في وقتٍ يدفع الصحافيون اللاهثون خلف الحقائق حياتهم في سبيل الحقيقة.
في عصرنا الحالي، صار من الصعب الإبقاء على بعض المفاهيم، نزيهةً أو مثالية، كالحرية والديمقراطية، بعد أن صار العالم محكومًا بديكتاتورياتٍ ماكرة، تغلغلت في الحياة وصار من الصعب الإفلات من عبوديتها الـ"فاتنة"، إمبراطوريات المال التي تصنع السياسة، تقود العالم وتدير رؤوسه معها، وها هم أرباب المال يملكون أكبر الشركات التي صِرنا مقيّدين إلى شبكاتها، مثلما يملكون أدوات الحروب بكل أشكالها، ويناظر زعماء العالم بالحريات والديمقراطية.
مؤسساتٌ عديدة تديرها حكومات أو مؤسسات أو حتى أشخاص لا يتوخّون الربح من خلالها، بل تموّل للغرض الذي تقوم من أجله
لكن، على الرغم ممّا نحن فيه، ومن أن العالم صار تحت الرقابة والوصاية، فلا بدّ من الدفاع عن حريّة الصحافة، واستقلاليتها، وتعدّديتها، ولا بدّ من صون الحريات التي تدّعي معظم دساتير العالم حمايتها، وأهمّها حريّة الرأي والتعبير، وصون الحياة والكرامة، بينما في الواقع لا تتحقّق هذه الحريّات بالشكل الذي تعبّر عنه، في أرقى حالاتها، إذ إن حريّة الصحافة واستقلاليتها مقيّدتان مسبقًا بأجندات الجهات التي تموّلها أو تستثمر فيها، فللاستثمار في الصحافة والإعلام شقّان، ربحي وآخر رمزي، إذ هناك مؤسساتٌ عديدة تديرها حكومات أو مؤسسات أو حتى أشخاص لا يتوخّون الربح من خلالها، بل تموّل للغرض الذي تقوم من أجله، وهناك عديد منها أيضًا ينتمي إلى أحزاب سياسية في الدول التي يوجد فيها، يقوم على الأهداف التي يحدّدها الحزب ويتبنّى الخطاب الذي يخصّه، حتى لو توفّر مستوى عالٍ من الحريّة، إنما يبقى للصحافة في الأنظمة الديمقراطية هامشٌ أعلى في الحرية قياسًا بغيرها من الأنظمة القمعية أو الشمولية، التي تحتكر الصحافة وحرية التعبير لديها، وتحدّد لها فضاءها ومساراتها، ومنها أيضًا أنظمة المنطقة العربية التي تعدّ، في بعض منها، محاولة الخروج عن الخطاب الحكومي نوعًا من الانتحار.
لكن، حتى للأنظمة الديمقراطية حدّها الذي تمارسه، وبالاستناد إلى القانون في سجال قضائي محنّك، على حرية التعبير والقول فيما لو كشفت الصحافة الغطاء عن ممارسات تلك الأنظمة، كما جرى ويجري مع جوليان أسّانج الذي تلاحقه السلطات الأميركية ومثّل عدوا لها، بسبب وثائق "ويكيليكس" التي سرّبها وتكشف جرائم الحرب الأميركية والفساد وجرائم فظيعة أخرى، وهذا ما يؤكّد أن الحرية المنقوصة تشوّه صورة الديمقراطية، والديمقراطية غير المعافاة لا يمكن أن تصون حرية الصحافة.
المال يصنع السياسة، والسياسة هي التي تُعلي من شأن حرية التعبير، ومنها الصحافة، أو تُنقص منها، بحسب المصالح والأجندات المتغيّرة
وبالعودة إلى إيلون ماسك و"تويتر"، فبات معروفا أن هذه المنصّة من أهم المنصّات التي يستقي المستخدمون أخبارهم منها، فبحسب مركز بيو للأبحاث، فإن أكثر من ثلثي مستخدمي "تويتر" في الولايات المتحدة يرونها مصدر أخبار مهمّا، بل ربما الأهمّ لديهم. وربما لو وجدت دراسة استقصائية وإحصائية في باقي أنحاء العالم لوجدنا أيضًا أن نسبة من يتابعونها مرتفعة، فهي إذن من المنابر الفعّالة بقوة في التأثير على الرأي العام، فكيف يمكن التكهّن بفحوى الحرية الصحافية التي سيمارسها هذا المنبر، الذي سيحدّد توجهاته وأهدافه وسياساته ومحتواه رجل واحد، أغنى رجل في العالم، ينتمي إلى عالم المال؟ قال الموظف السابق في "فيسبوك" ونائب الرئيس لسياسة التكنولوجيا في مركز التقدّم الأميركي، آدم كونور، "يعتبر استحواذ ماسك على تويتر ضوءًا أحمرَ وامضًا حول سبب خطورة تمركز مساحاتنا على الإنترنت في أيدي قلة مختارة من المليارديرات"، بل يمكن القول إن المال يصنع السياسة، والسياسة هي التي تُعلي من شأن حرية التعبير، ومنها الصحافة، أو تُنقص منها، بحسب المصالح والأجندات المتغيّرة، فقضية قتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في عام 2018، شغلت العالم خلال السنوات الفائتة، واشتغلت السياسة على إثرها، لكنها اليوم توضع في الأرشيف مقابل مصالح الدول وبقوّة السياسة.
أمّا الأنظمة القمعية التي تحاصر شعوبها، وترتكب الجرائم بحق هذه الشعوب، فيمكن غضّ الطرف عنها، وإعادة تسليط الضوء عليها وحضورها في المشهد العالمي، فيما لو تغيّرت سياسات الدول تحقيقًا لمصالحها. ولكن تبقى الحرية، حرية الصوت والتعبير والكلمة، مطلبًا وهدفًا لدى الشعوب، وتبقى الصحافة في مناورة دائمة مع القوى المسيطرة ومع السلطات بكل أشكالها، بل تصل المناورة إلى حدّ المعارك في حربٍ طويلة قد يدفع الصحافيون حياتهم فيها، من أجل الحقيقة، والحقيقة فقط، وتاريخ الصحافة مليء بالشواهد عن صحافيين أو مراسلين قضوا في أثناء القيام بمهماتهم الاستقصائية، أو بسبب آرائهم.