في المزايدة الأوروبية على السوريين
يطيب لفئة من المهتمين بالشأن السوري، سوريين وغير سوريين، عرب وغير عرب، أن يتجاهلوا، عن نيّة حسنة، ما لا يبدو لهم مطمئناً مما ظهر في الأيام العشرة الأولى لعمر سورية ما بعد آل الأسد، أي ما يُصطلح على تسميتها سورية الجديدة. والجِدّة ليست قيمة إيجابية بالضرورة إلا إن اتُّخذ زوال حكم البعث الطائفي العسكري الدموي معياراً وحيداً، وهو ما لا يجدر أن يكون عليه الحال، فالطموح أكبر من إطاحة تلك السلطة. يميل أعضاء هذا النادي ممن تجمع بينهم حماستهم لرؤية سورية ديمقراطية مدنية علمانية تعدّدية حرّة، إلى مواجهة المتوجّسين الكثر من سلوك إسلاميي الفصائل بالقول إن عشرة أيام هي فترة قصيرة جداً للحكم على الأفعال والنيات بناءً على ما نعرفه من تصحّر سياسي في الداخل السوري، وأزمات بنيوية لهياكل المعارضة السياسية غير المنبثقة من الفصائل المسلحة، والتي لم يعد كثر من رموزها إلى بلدهم بعد ليفرضوا أنفسهم ويمنعوا احتكار المشهد. ولكن، عاجلاً أم آجلاً، سيضطر أفراد هذه الفئة إياها إلى الاعتراف بحجم الخوف والقلق مما نراه ونسمعه ونقرأه من أمثلة وشهادات وحوادث وتصريحات تتعلق بالحريات الشخصية والموقف من القوانين الوضعية والنيات بإرساء حكم ديني لا تبشر بخيرٍ لسورية. خيرٌ لا يتحقق إلا إن كان هذا البلد ديمقراطياً تعدّدياً حكمه غير ديني ولا طائفي، ذلك أنه في البلدان المتعددة طائفياً، حُكم الغالبية المذهبية بصفتها الدينية، سيكون حكماً طائفياً، مثلما كان حكم الأقلية طائفياً في زمن آل الأسد. عاجلاً أم آجلاً، سنتوقف عن إيجاد المبررات والأسباب التخفيفية لإسلاميي الفصائل، وسنتوقف عن تكرار أمنية أن تكون انتهاكات هؤلاء في السلوك والتصريحات مجرّد حالات فردية لا تعبّر عن الاتجاه العام لأحمد الشرع وإخوانه.
والبداية العرجاء تُرصَد ملامحها لا في سلوك حكام سورية الجدُد من إسلاميي الفصائل فحسب، بل أيضاً من مواقف أولية لرموز الدبلوماسية الأوروبية. هؤلاء اجتمعوا يوم الاثنين في بروكسل، ممثلين بوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي ومسؤولة الشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد كايا كالاس، لتعلن الأخيرة موقف المجتمعين مزايدةً رخيصةً على السوريين. تقول السيدة الإستونية ما حرفيته إن القضاء على النفوذ الروسي (في سورية) "يجب أن يكون شرطاً على الإدارة الجديدة" في دمشق. بكلام آخر، مطلوب من حكام الشام أن يعلنوا الحرب فوراً على روسيا وقاعدتيها العسكريتين، طرطوس البحرية وحميميم الجوية، لكي ترضى عنهم العواصم الأوروبية. حجم وقاحة مذهل في إيحائه بأن مشكلة الأوروبيين مع روسيا في سورية أكبر من مشكلة السوريين أنفسهم معها، روسيا التي قتلت ودمّرت واحتلت في سورية ووفّرت عكّازاً أمّن مع العكاز الإيراني بقاء نظام بشار الأسد. ولو تجرّأ الأوروبيون ومعهم الأميركيون في سنوات الثورة ثم الحرب الأهلية على مواجهة ذلك النفوذ الذين يريدون من السوريين اليوم محاربته بالنيابة عنهم بينما هؤلاء يتلمسون طريقهم لإعادة بناء دولتهم وإعمار بلدهم من تحت الصفر، لكانوا تفادوا تضخّم الدور الروسي في وجود "جيش سوري حرّ" قبل أن تطيح فصائل إسلامية من طريقها كل ما سواها وتتسيّد المشهد وحيدة. وهذا الخوف الأوروبي على سورية من "الأجانب الأشرار"، الروس والإيرانيين، لا يشمل إسرائيل واستباحتها الشاملة سورية وإهانتها إنجازهم على شكل احتلال أراضٍ سورية وتدمير بنى تحتية دفاعية. يتراءى هذا الحرص الأوروبي على سورية في حقيقة أن عواصم دول الاتحاد لم تفكّر فور إطاحة النظام السوري إلا بتعليق دراسة طلبات لجوء السوريين.
الأيام العشرة التي مرّت على سقوط النظام ليست بداية مرحلة انتقالية. هي مجرّد تلمّس لطريق صعب، ويُرجح أن تصبح أكثر تعقيداً مع مرور الوقت. تعقيد لا تفعل إسرائيل سوى تغذيته في ظل تفويت أوروبي لفرصة مصالحة شعب سوري يريد ألا يبقى وحيداً في مواجهة كل أنواع الوحوش، القريبين والبعيدين.