العمى الإسرائيلي والقماشة اليمنية الحمراء
تتردّد في تقارير صحافية عربية وأجنبية هذه الأيام مقولة صحيحة مفادها أنّه لا بنك أهداف عسكرياً دقيقاً لإسرائيل في الجزء الذي يسيطر عليه الحوثيون في اليمن. يُقال، عن حق، إن اليمن لم يكن يوماً مركزياً في حسابات تل أبيب منذ إتمام هجرة يهود ذلك البلد إلى إسرائيل على مراحل ممتدة من الأيام الأولى لتأسيس الدولة عبر العملية السرية الضخمة "بساط الريح"، التي استقدمت الحركة الصهيونية بموجبها عشرات آلاف من هؤلاء بين عامي 1949 و1950، وقد استُكملت بجلب آخر العائلات اليهودية من بلدها إلى فلسطين على دفعات بتواطؤ من حكام صنعاء المتعاقبين، وصولاً إلى طرد من تبقى منهم على يد الحوثيين بعد استيلائهم على السلطة بانقلاب عسكري. كما يُقال إن المسافة الجغرافية الفاصلة بين فلسطين واليمن (ألفا كيلومتر تقريباً)، أدّت ولا تزال تؤدي دوراً أساسياً في مفاقمة هذا العمى الاستخباراتي الإسرائيلي، وقد غاب هذا البلد عن الحسابات الدسمة لجهاز الموساد، لطرفيّته وبُعده عن أحلام الحركة الصهيونية قديماً، وعن أطماع الدولة الإسرائيلية حديثاً. أما فقر اليمن واليمنيين، فقد أبقاهم بعيدين عن الأهداف الإسرائيلية، فلا التكنولوجيا أساسية في منظومة عمل الحوثيين، إذاً يصعب تعقّبها ورصدها، ولا علاقات "أنصار الله" متشعبة خارج إطار المحور الإيراني الذي ينتمون إليه.
لائحة العوامل المذكورة أعلاه عزّزت "الجهل" الإسرائيلي تجاه الحركة الدينية المسلحة التي تحكم مساحة كبيرة من اليمن بأدوات وأفكار وطموحات مستعارة من العصور الوسطى، وشجّعت هؤلاء على الانخراط في إطلاق نسختهم الخاصة مما أرادوا لها أن تكون منذ قبل أكثر من عام، مشاغلة لإسرائيل وإسناداً لغزة وحرباً عالمية على أميركا والغرب. حرب بدأت في البحر الأحمر على الحركة التجارية فتضرر منها الاقتصاد المصري وقناة السويس واقتصادات عربية وعالمثالثية أخرى أكثر مما أوجعت الاقتصاد الإسرائيلي، ثم ارتقت رتبةً بتوجيه صواريخ إلى تل أبيب ومدن أخرى أصابت مدرسة حيناً وشققاً سكنية وأحياء ومساحات خالية أحياناً، لتحسم إسرائيل قرارها بالقضاء على "الخطر الحوثي" وتصفية قيادات الحركة كما يتوعد أركان حربها وحكومتها.
يتفاخر الحوثيون بواقع العمى الاستخباراتي الإسرائيلي ويتعاطون معه على اعتباره أهم أوراقهم لكي يصعّدوا وتيرة إطلاق صواريخهم باتجاه مدن إسرائيلية وسفن تجارية. لكن ذلك العمى بقدر ما هو نقطة قوة لهؤلاء، فإنه يحمل أنباء كارثية للمواطنين اليمنيين. فإسرائيل، المدفوعة بطاقة إجرامية هائلة، والمسنودة بدعم غربي غير مسبوق، ستتعاطى مع القليل المتبقي من بنية تحتية يمنية كأهداف عسكرية، وهو ما توحي به الغارات المكثفة التي شنتها بالفعل مقاتلات "أف 16" في الأيام الماضية على صنعاء والحديدة، وقد دمرت جزئياً أو كلياً مرافق حيوية أساسية لإبقاء اليمنيين على قيد الحياة، مع أن كلمة "حياة" مبالَغ فيها لوصف أحوال هذا الشعب المنكوب: مطار صنعاء، وميناء الحديدة، والمحطة الرئيسية لتوليد وتوزيع الكهرباء في تلك المدينة الساحلية، ومكاتب تتبع لشركة النفط اليمنية في الميناء، ثم خزانات النفط فيه. وكلّما ثبت أن حرب المشاغلة الحوثية لا تسند الفلسطينيين، مثلما لم يخفف حزب الله ضغطاً عنهم في مغامرة انتهت بهزيمة شنيعة للحزب ولمحوره وللبنان ولسكانه، تعززت قناعة الحوثيين بأن ما يفعلونه عين الصواب لتحقيق حلم "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"، وربما وجبت إضافة على صرختهم تنويعة من نوع "البؤس لليمنيين".
من لا يخشى اليوم على اليمنيين من تبعات المغامرة الحوثية، ليس أمامه سوى أن يسمّك النظارات السياسية التي يرتديها، وليتذكّر أن إسرائيل ثور هائج لا يردعه أي وازع، يركب آلة عسكرية هائلة ومستعد لقتل آلاف المدنيين اليمنيين لكي يقضي على حوثي واحد. ثور كهذا لا شيء من الحكمة في مشاغلته بقماشة حمراء تزيل العمى عن عيونه.