في التبريرات غير الوافية لتلكُّؤ الشارع العربي
يخجل العرب المؤمنون بالقضية الفلسطينية، والمتألّمون لمأساة غزّة (والضفّة اليوم)، حين يقارنون الحركة الاحتجاجيّة المحدودة، وفاقدة الوتيرة في الشارع العربيّ، بتلك التي شهدها الشارع الغربيّ، الذي ضاق بمئات ألوف المتظاهرين رفضاً للإبادة ونصرةً لغزّة ولفلسطين، وبوتيرةٍ أسبوعية يستمرّ بعضها حتّى الساعة، فيما الجماهير العربية والإسلامية، المعنيّة الأولى بالمأساة الرهيبة قبل أيّ جمهور آخر في العالم غرباً وشرقاً، في وضع من الاستكانة والركود والخمول مثيرٍ للاستغراب والاستهجان.
سيقت في تحليل هذه الظاهرة المُؤسفة في الشارع العربي (هل نقول شبه الميّت؟) تبريراتٌ جمّةٌ، قد يكون بعضها صحيحاً، لكنّه غير كافٍ ولا يمنح الشعوب العربية صكَّ براءةٍ أو يعفيه من واجبه الإنسانيّ والقوميّ والوطنيّ حيال شعب يُذبح منذ أكثر من 11 شهراً، ويتصاعد يومياً عددُ جرحاه وشهدائه المدنيين المُستباحَة أجسادهم للوحش المعدنيّ الصهيونيّ الطليق. فهل يُعقَل أن تترافقَ المذابحُ اليومية في غزّة مع الحياة الطبيعية في البلدان المُحيطة بفلسطين، أو الأبعد منها قليلاً، فيواصل الناس عيشهم اليوميَّ كأنّ لا شيء يحصل في القطاع المُدمَّر والمذبوح، وكأنَّ لا إبادةَ يتعرّض لها هذا الشعب الفلسطينيّ الصامد ببطولة عزّ نظيرها. هنا شعب يُباد ويُمزَّق أشلاءً، وعلى مرمى حجر مئات ملايين العرب والمسلمين منشغلون بصغائر الحياة، بالاستهلاك والترفيه، ويرفع بعضهم بدلاً من "علم فلسطين حرّة"، كما في الغرب، شعار "نُحبُّ الحياة" أو "مالنا ومالهم" أو "هذه قضيتهم"، أو ما هو أخبث مثل "تلك مغامرتهم فليتحمّلوا مسؤوليتهم في وجه عدوّ لا يُهزم"، وما إلى ذلك من فِكَرِ خزيٍّ وعارٍ وهزيمةٍ.
نقول، قبل تفنيد بعض التبريرات، إنّ على الشعوب العربية، من المِلَل والعقائد والأديان والطوائف كلّها، أن تنزل إلى الشارع بدافع واحد على الأقلّ، هو الدافع الإنسانيّ. إنّه الدافع الجوهريّ الذي حرّك الشارع الغربيّ قبل أيّ دافعٍ أو سببٍ آخر. فإنْ كانت الشعوب العربية المُستكينة أو اللامبالية فقدت الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، أو تعبت منها، أو خاب ظنّها، أو يئست وفقدت الأمل بهزم الكيان المغتصب والدول الباغية التي تدعمه، فمن غير المقبول تحت أيّ ذريعةٍ أن تفقد الإحساسَ الإنسانيّ والتعاطفَ مع بشر يُقتلون وتتناثر أشلاؤهم أو تُدفن تحت الركام، وأن تقف هذه الشعوب العربية ذات الأغلبية المسلمة والمعنيّة بمقدّساتها متفرّجةً على الفجيعة الاستثنائية في التاريخ من دون إبداء أيّ ردَّة فعل، حتّى إنسانيّة، من أجل شعب وأرض وقضية ومقدّسات. إن لم يكن التضامن كفاحيّاً، فليكن إنسانيّاً في الأقلّ.
معاناة الناس في أقطارنا العربية، مشرقاً ومغرباً، ولهاثهم خلف لقمة العيش يُخفّضان من قدرتهم على التأثّر والتعاطف والتفاعل
من التبريرات التي تُساق بشّأن ردَّة فعل الشارع العربي المحدود والمتردّد وغير المنتظم وتيرةً واستمراراً استبداد ما بعد "الربيع العربي"، وعدم رغبة النظم العربية في عودة الحَراك إلى الشارع الذي قد يتحوّل ثورةً شعبيةً ضدّ هذه النظم المُستتبَعة للتطبيع والأمركة. تبرير يبدو للوهلة الأولى معقولاً ومنطقيّاً، لكنّ الغضب الشعبيّ العارم، إنْ توافرت له الحشود الضخمة، هو مثل الإعصار لا يستأذن أحداً ولا يخشى أحداً. فمن السهل على الأجهزة الأمنية القمعيّة أن تعتقل متظاهرين يحصون بالمئات أو ببضعة آلاف، لا حينما يكونون بعشرات أو مئات الألوف في الشوارع الرئيسة وفي الساحات الكبرى. هنا تتعطّل بالتأكيد آليات القمع والعنف والاعتقال. البرهان أنّ العديد من التظاهرات خرجت في مدن وعواصم عربية ولم تتعرّض لقمع أو مواجهات عنيفة مع الشرطة وسواها.
من تلك التبريرات أيضاً، عدم وجود أطر حزبية تُحرّك الشارعَ وتنظّم التظاهراتِ وتحشد لها أعداداً كبيرة. هنا يبرز السؤال: لِمَ كانت الجماهير العربية تتحرّك في الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي؟ هل لأنّ الأحزاب كانت تقود التظاهرات فقط، أمّ لأنّ الجماهير كانت معبّأة تلقائياً وتملك وعياً قومياً ووطنياً، فطرياً ومكتسباً، للقضايا التحرّرية العادلة والمحقّة؟... هذا الوعي المُلتزِم لم يبقَ موجوداً اليوم بسبب طغيان الجهل والأمّية وانعدام الثقافة والانغماس في تفاهات "التواصل الاجتماعي"، والاستسلام للترفيه المُنحطّ فوق بحر الدماء المتدفّق فوق تراب غزّة. هي إذاً أزمة وعي أفراد وجماعات، لا مسألة سلطة قمعية لطالما كانت موجودةً تاريخيّاً في مختلف أنحاء الوطن العربي.
الغضب الشعبيّ العارم تجاه إبادة الفلسطينيين في غزّة إنْ توافرت له الحشود الضخمة، مثل الإعصار لا يستأذن أحداً ولا يخشى أحداً
معاناة الناس في أقطارنا العربية، مشرقاً ومغرباً، ولهاثهم خلف لقمة العيش يُخفّضان من قدرتهم على التأثّر والتعاطف والتفاعل. تبرير معقول، إنّما غير وافٍ أيضاً، فالفقراء أنفسهم يستطيعون بعد صلاة الجمعة الخروج إلى تظاهرة في الشارع لبضع ساعات، ولن يُؤثّر في تحصيلهم لقمةَ عيشهم، فليس هناك من هم أفقر من "حفاة صنعاء"، الذين يخرجون كلّ يوم جمعة، وبانتظام صارم، في تظاهرة مليونية تأييداً لغزّة. الفقر ليس عائقاً ولا مبرّراً للانكفاء عن التعبير والاحتجاج ضدّ مأساة إنسانية اهتزّ لها العالم، فالجماهير التي ملأت الشوارع في مدن الغرب هي من الفئات والمستويات الاجتماعية كلّها.
تعبت الشعوب العربية من القضية الفلسطينية التي لم تعد أولويّة بالنسبة إليها، إذ ثمّة مناخٌ اشتغلت عليه النظم الحاكمة بمساعدة وتوجيه من الغرب لتحييد قضية فلسطين ورفع شعار "بلدكَ أوّلاً.. أسرتك ونفسك". هذا صحيح، ويحدث، ولكن مرّة أخرى أين وعي الفرد والجماعة؟ وهل باتت الشعوب قطعاناً مسيّرةً تخضع للتأثيرات الخارجية فتنسيها انتماءها القومي والديني والإنسانيّ، والتزامها قضايا الأمة التاريخية؟... إنّ كانت هي الحال اليوم فعلى الدنيا (والعرب) السلام.
أمّا إقناع الشعوب العربية، عبر إعلام بعض النظم المُطبّعة والمهادنة والمستسلمة، بأنّ المقاومة في غزّة تُهزم، وبأنّها عاجزةٌ وتتحمّل تبعات المذبحة الحاصلة، وبأنّ غزّة كانت أفضل حالاً حتّى وقعت "مغامرة السنوار" الذي يعمل "لخدمة إيران"، فهنا نحن إزاء قمّة التضليل وتزييف الحقائق، فضلاً عن القفز فوق الواقع التاريخيّ، الذي يثبت أنّ معاناة غزّة الطويلة سابقة بعقود على "مغامرة السنوار"، وأنّ القطاع المُجوّع والمُحاصر والمُتعرّض لمذابحَ متتاليةٍ لطالما كان سجناً في الهواء الطلق شديد الفقر والقهر والكثافة السكّانية، وأنّ ما حصل في 7 أكتوبر (2023) لا يصحّ وصفه بغير الفعل التحرّري البطوليّ لسجين ضدّ سجّانه، وليس خدمةً لأيّ بلد أو جهة. ولو صحّ أنّ إيران تسلّح وتموّل، فلِمَ لا يسبقها العرب إلى ذلك ويقطعون عليها الطريق؟!
مأساتنا نحن العرب أنّ شعوبنا لم تعتنق بعد الحرّية قيمةً تستحقّ نضالاً خاصّاً واستثنائياً
وفي ما يتعلّق بمبرر استنزاف حيويّة المجتمعات العربيّة، وانحسار الطبقة الوسطى التي تتصدّر الحراكات عادةً، فالفقراء والأثرياء طبقتان غير فاعلتين، فالفقراء يلهثون خلف قوتهم اليوميّ، ويخشى الأثرياء على مصالحهم وثرواتهم، فقد نكون هنا إزاء قراءة طبقية ماركسية، وفيها قَدْرٌ من الصحّة، لكنّها تبرير غير وافٍ أيضاً، إذ يبقى الأمر متعلّقاً في الحالات كلّها، كما تقدّم، بوعي الأفراد والجماعات المُتشكّل بالمعرفة والثقافة، وهاتان إن فُقِدتا فَقد كلُّ نقاش أو كلام جدواه.
القول بلا جدوى الحراك الاحتجاجيّ السلميّ وعدم تأثيره في مجريات الواقع، هو أيضاً اعتقادٌ خاطئٌ، فعلى الصعيد العالمي أسقطت التظاهرات الضخمة واعتصامات الطلاب في كبريات الصروح الجامعية سمعة الكيان الصهيونيّ "دولةً ديمقراطيةً" في محيط من النظم المُستبدّة، و"شعباً متحضّراً" وسط "شعوب متخلّفة". كما أسقطت القناع عن وجه "إسرائيل الضحيّة" لينكشف وجه "إسرائيل المجرمة"، وهذه لطخة تستحيل على الكيان المجرم إزالتها بمئات السنين. أمّا في المستوى العربيّ فها إنّ الحراك الشعبيّ في الأردن، وهو الأكبر عربياً (حتّى لو بقي من دون المطلوب وتيرةً واستمراراً)، أجبر الحكومة الأردنية على إلغاء توقيع اتّفاقية الماء مع الكيان، مثل ما ألغى مشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن في المؤتمر الرباعيّ في عمّان... بلى، يمكن أن تكون التظاهرات الشعبية العارمة مُؤثّرةً، فالحركة تنتج، بالتأكيد، أكثر من السكون والاستكانة.
إنّ مأساتنا نحن العرب تكمن في أنّ شعوبنا لم تعتنق بعد الحرّية قيمةً تستحقّ نضالاً خاصّاً واستثنائياً. نَفَس هذه الشعوب قصير، ولم يبلغ شعورها الإنسانيّ الدرجة التي بلغها قسم من شعوب الغرب، إذ ثمّة وعي ثقافيّ عميق لقيمة الإنسان الفرد ولمأساة الجماعة. لديهم جمهور مثقّف يفقه معنى الكرامة الإنسانية والتحرّر، فيما يكتم مثقّفونا العرب وعيهم غير المُقترن بالفعل، وغير المؤدّي دور المثقّف العضويّ المُنخرط في الميدان، السائر في طليعة مجتمعه نحو التحرير وحفظ الكرامة الإنسانية لشعب يتعرّض للإبادة.