حرب الجبهات الداخليّة وعضّ الأصابع
الصدام الأشدّ فداحةً وإيلاماً، بين المقاومة الإسلامية في لبنان وجيش الإبادات الإسرائيليّ، ليس دائراً في شكل أساسيّ عند الخطّ الحدوديّ البريّ الذي بات شبيهاً بخط ماجينو، بل بين الجبهتين الداخليتين لكل من لبنان والكيان بواسطة الطيران الحربي والمسيّرات للعدو، والصواريخ والمسيّرات للمقاومة، والأهداف مدنيّة بمعظمها في الجانب اللبناني، وعسكرية غالباً داخل فلسطين المحتلة. أمّا في الجانب الأول، فالدمار جمٌّ والموت كثير. وفي الجانب المقابل، خوف منتشر وحياة معطّلة وبعض الأذى والخراب في المستعمرات.
هي، إذن، حرب من يصرخ أوّلاً وجعاً، ومَنْ الأكثر قدرةً على التحمّل واستيعاب الخسائر البشرية والمادية. هنا يبرز للوهلة الأولى فرق جوهريّ: المجتمع اللبناني يملك "خبرةً" ممتدّة عقوداً طويلة خلت، بسبب العدوان الصهيوني المستمرّ والدمار والتهجير وسقوط الضحايا في كل جولة، فأضحى بالتالي في مرحلة "ما بعد الصدمة"، مكتسباً مناعةً وحصانةً ضدّ الخوف والذعر والتدافع الهَلِع نحو الملاجئ (إن وُجدت)، متآلفاً مع أصوات الطائرات الحربية والصواريخ المنهمرة والتدمير الهائل الذي تُحدثه، والموت العميم الذي تنشره (أسطع مثال حديث جداً: شارعا منطقة النويري والبسطة في بيروت اللذان اكتظّا بالناس بعد ثوانٍ من الغارتيْن، ما حال دون وصول سيارات الإسعاف إلى المكانين، فأُطلقت رصاصات لتفريق المحتشدين. مشهد تستحيل مشاهدته في كيان العدو). بينما لا تملك الجبهة الداخلية "المدنيّة" الإسرائيلية خبرةً من هذا النوع، إذ لطالما كان الكيان يخوض حروبه خارج أرضه، ونادراً ما سقطت الصواريخ بكثرة في مستعمراته ومدنه، فلا يملك قوم المستعمرين مناعةً وشجاعةً وتعوّداً، لذا تكثر في صفوفه وعبر الفيديوات المسرّبة نوبات الهلع والركض إلى الملاجئ، متبوعة بالصدمات النفسية التي تستلزم العلاج. ويزداد الوضع تعقيداً مع طول أمد الحرب والسقوط اليومي للصواريخ والمسيّرات الانتحارية، ليلاً ونهاراً. من هنا خشية قادة العدو من حرب استنزافٍ يحاولون تفاديها من خلال تكثيف غارات الطيران الحربي ومضاعفة "الصدمة والترويع" علّهم يقصّرون بذلك أمد الحرب، فلا يقبع مجتمعهم أكثر في الملاجئ، ولا تتعطّل مرافق الحياة لديهم، ولا يتفاقم النزوح، إلى ما هنالك من أضرار ناجمة عن حرب ممتدّة زمنياً لا طاقة للكيان على احتمالها.
تؤرّق مسألة الجبهة الداخلية الإسرائيلية المسؤولين الصهاينة منذ ما قبل 7 أكتوبر (2023) بعقود طويلة، وهي تشكّل كابوساً مرعباً لقادة الكيان الذين يتخبّطون ويحتارون في الحلول الفضلى لحماية جمهور المستعمرين لأرض فلسطين، فأقرّوا، على سبيل المثال، قانوناً يُلزم كلّ مستعمر ببناء غرفةٍ محصّنةٍ داخل كل شقة في أي بناء جديد لتحسين وضع الحماية، وزيدت المساحة المفروضة لهذه الغرفة من خمسة أمتار إلى تسعة، على أساس أنّ "الإقامة" فيها قد تمتد فترة طويلة. ورغم ذلك، بقي ثلث الصهاينة بلا ملجأ، وثلث آخر يملك ملجأً عامّاً قريباً، وظلّ مستوطنو شمال الكيان يشكون من أن الملاجئ غير جاهزة وخزّان الأمونيا في حيفا باقٍ في مكانه وشبكات الكهرباء والماء معرّضة للانهيار.
تدرك جبهة المقاومة نقاط الضعف والفجوات في القدرات الدفاعية للجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتركّز خطتها على إطالة أمد الحرب وتعدّد الجبهات
لا يملك الكيان المحتل عمقاً استراتيجيّاً، ولا خيار أمام الجبهة الداخلية مع اشتداد أوار الحرب سوى الفرار من أرض فلسطين. وكان رئيس الحكومة الأسبق، نفتالي بينيت، قد نبّه إلى الأخطار المحيقة بالجبهة الداخلية، وعلى نحو لم يختبره الإسرائيليون في السابق، فالكيان غير مهيّأ لعشرات آلاف الصواريخ، وأكثر من مليوني إسرائيلي هم بلا تحصين ملائم، وفجوات التحصين لا تزال واسعة، ويحتاج سدّها إلى مبالغ طائلة تقدّر بنحو ثلاثة مليارات دولار. ويتعمّق المأزق بوجود الصواريخ الدقيقة ذات القدرة التدميرية العالية بين أيدي المقاومة، التي تتسبّب بخسائر وأضرار استراتيجية، عسكرية أو مدنية، بمئات أضعاف ما تحدثه الصواريخ غير الدقيقة.
ويصف أودي ديكل، مدير معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب سيناريو الحرب بين كيانه وإيران، بمشاركة أطراف المحور من لبنان إلى اليمن، بأنه واقعي جداً، وضع له عنوان "لا حصانة إلى الأبد"، وتتعرّض فيه دولة الاحتلال لهجمات بالصواريخ الباليستية والموجّهة والمسيّرات من إيران ولبنان وسورية والعراق واليمن في وقت واحد، متوقعاً أن تواجه الدفاعات الإسرائيلية صعوبات في التعامل مع تهديد مماثل، وستكون النتيجة دماراً هائلاً، وسيسقط قتلى كثيرون في المراكز السكانية، على نحو لم تشهده "إسرائيل" ماضياً. أما الأهداف المتوقعة، بحسب ديكل، فهي: بطاريات الدفاع الجوي بهدف تحييدها، مصافي تكرير النفط في حيفا، محطات توليد الكهرباء ومنشآت تحلية المياه، مخازن مواد سامة، مقرات قيادات عسكرية، قواعد سلاح الجو، الموانئ، إلخ. ويختم ديكل تقريره بالتنبيه الأهمّ: "الجبهة الإسرائيلية الداخلية نقطة ضعف مصيرية في قدرة الدولة على مواجهة حروب تستمرّ فترة طويلة، فإسرائيل تستمرّ في إعداد الجبهة الداخلية لحرب كبيرة، إنما ليس بالنحو الكافي، في ظل التهديدات الإقليمية".
يحاول نتنياهو الإيحاء لمجتمعه، يومياً، بأنّ الحرب مع "محور الشرّ" طويلة، وأنّها حرب وجود يبقى الكيان في ختامها أو لا يبقى
من الواضح أن جبهة المقاومة تدرك نقاط الضعف والفجوات في القدرات الدفاعية للجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتركّز خطتها على إطالة أمد الحرب وتعدّد الجبهات، بغية بعثرة قدرات جيش الاحتلال وإضعاف مناعة الكيان اقتصادياً واجتماعياً لفترة طويلة، وعرض صورة انتصار تؤثّر في وعي الجمهور الإسرائيلي الذي لم يعد يفيده كثيراً نظام الإنذار والتنبيه (تحديداً صفارات الإنذار) المتصل بالهجمات الصاروخية، علماً أنّ هذا النظام شهد تحديثاً وتعديلاً في السنوات الأخيرة حتى بات الكيان يمتلك نحو 1700 منطقة إنذار، بحيث تستطيع قيادة الجبهة الداخلية إطلاق الصفارات في بلدة واحدة وتستثني البلدات المجاورة وفق خوارزميات عالية الدقة، مرتبطة بسلاح الجو الإسرائيلي حيث تقنيات الرصد والرادارات المتطورة التي تكشف كل تهديد جوي، صاروخاً كان أو مسيّرة، يخترق أجواء فلسطين المحتلة... ولكن هذا كلّه لم يأتِ بنتائج مضمونة، إذ بقي عدد كبير من الصواريخ والمسيّرات يتجاوز الدفاعات ويغيب عن شاشة الرادارات ويسقط في الأهداف المحددة.
في المعركة المصيرية الراهنة، يحاول نتنياهو الإيحاء لمجتمعه، يومياً، بأنّ الحرب مع "محور الشرّ" طويلة، وأنّها حرب وجود يبقى الكيان في ختامها أو لا يبقى، وأنّ على الجمهور الإسرائيليّ أن يتوقع "إقامة مديدة" في الملاجئ وخارج مستعمراته في شمال فلسطين (جنوب لبنان) وغلاف غزّة، وأن "يتدرّب" على التحمّل الطويل للمرّة الأولى في تاريخه، ليصبح مثل الشعب اللبناني "خبيراً" بالحروب الطويلة والقدرة على الاحتمال. يراهن نتنياهو بجموحه وسُعاره على مشاركة الجميع في مجتمع الاحتلال، عسكراً ومدنيين، متدينين وعلمانيين، بمغامرته "القياميّة" الدمويّة، المدمّرة، فلا يستنكف أحدٌ عن خوض المغامرة المجنونة معه، حتى لو قادت بنحو مفاجئ وغير متوقّع إلى دمار "إسرائيل" وزوالها، وإلى انقراض الديناصور الصهيوني على يد مقاومة أقلّ قوة وتسليحاً، لكن أكثر قدرة على التكيّف والصمود والبقاء.