في البحث عن الجانب الصحيح للتاريخ
قال وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إن بلاده تقف على الجانب الصحيح من التاريخ بشأن الأزمة الأوكرانية، كما سيثبت الوقت ذلك، وإن موقفها يتماشى مع رغبات معظم الدول. جاء هذا في بيان لوزارة الخارجية الصينية يوم السبت 19 مارس/ آذار الحالي، إثر تصريحات وانغ بعدما حذّر الرئيس الأميركي، جو بايدن، نظيره الصيني، شي جين بينغ، يوم الجمعة، من "عواقب" إذا قدّمت بكين دعماً مادياً لغزو روسيا أوكرانيا، والذي قال لبايدن إنه لا بد من انتهاء الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن. ودعا دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى إجراء حوار مع موسكو، ولكنه لم ينح باللوم على روسيا.
أين هو الجانب الصحيح من التاريخ، كي توضع المواقف التي تصدر عن الزعماء والقادة، والأنظمة والنخب وكل إنسان معني بما يحصل في العالم، في ميزان المحاسبة، الأخلاقية أو القانونية وغيرهما؟ وهل يمكن الوصول إلى الحقيقة في ما يتعلق بالتاريخ؟ حتى المجرم الذي يرتكب جريمته ويعترف بها، إن كان تلقائيًّا وهذا نادر، أو بالإمساك به متلبّسًا، لديه دائمًا حججه في تبرير جريمته، لكن للقانون كلمته، فيما لو كان قانونًا متماسكًا مدروسًا صيغ وجرى الاتفاق عليه بإجماع الأغلبية، بشكل حرٍّ ومن دون إكراهات أو إملاءات أو تواطؤات.
أمّا القانون الدولي الذي يُفترض أن يكون أكثر عدلًا وعدالة ومساواة بين الشعوب والبشر والأمم والدول، وأكثر ضمانًا لمستقبل البشرية، فإنه كلّما اعتلى في سلم الرتب والأهمية كان هشًّا وعرضة للاختراقات والتلاعب والمماطلة والتطويع، مثل التاريخ الذي لن يُعرف أبدًا الجانب الصحيح منه، ولا حتى مجراه الطبيعي كي تُعرف ضفتاه، أو ضفافه. التاريخ أمر إشكالي ويُكتب بأقلام كثيرة، وبنياتٍ عديدة، وبنسختين على الأقل، نسختي المنتصر والمهزوم. فلو استدعينا التاريخ ووضعناه على الطاولة للفحص والتمحيص، لن نرى غير الحروب والإبادة، والتحالفات والعداوات والخصومات، ثم انتصار للقوة، هل يمكن تحديد الجانب الصحيح منه؟ أين كان الجانب الصحيح، من الناحيتين، الأخلاقية والإنسانية، في جرائم الإبادة الجماعية التي قامت بها مجموعات بشرية على هيئة إمبراطوريات أو ممالك أو دول أو أمم، بحقّ شعوب بعيدة جعلت منها مستعمرات، أو أقامت دولها محلّها وطمست تاريخها؟
التاريخ أمر إشكالي ويُكتب بأقلام كثيرة، وبنياتٍ عديدة، وبنسختين على الأقل، نسختي المنتصر والمهزوم
ديمقراطية الدولة وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها والالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية شعاراتٌ لم تلتزم بها الحكومات الأميركية المتعاقبة، وما زالت مستمرّة في حروبها التي تراكم جرائم زيادة على ماضيها القائم على الإبادة منذ نشوئها على حساب السكان الأصليين، الهنود الحمر، وممارسة أعتى أشكال الوحشية بحقهم، إلى حروبها في فييتنام، مرورًا بإلقاء قنابلها الذّرية على هيروشيما وناغازاكي، وصولًا إلى أفغانستان والعراق.
لا يمكن قبول ادّعاء أن الزمن يحيل الجرائم إلى حجارة صمّاء، فالجرائم تبقى ماثلةً في دماء ضحاياها الأبرياء، وذاكرة الدم طويلة، متوهّجة، لا يمكن ضبطها إلّا بإظهار الحقائق واعتراف المرتكب بجرائمه، بوصف هذا خطوة أساسية في تحقيق العدالة التي تضمن إمكانية الاستمرار والتعايش على هذا الكوكب. لقد تغاضى العالم عن الجرائم التي ارتكبتها القوى الكبيرة على مرّ التاريخ، بل ما زالت تتكرّر وتعيد نفسها باختلافٍ وحيد هو هوية الفاعل، فما تقترفه روسيا اليوم في أوكرانيا اقترفته أميركا بحذافيره في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق، وحتى في سورية وما زالت، ودائمًا توجد المبرّرات والحجج الجاهزة، فلا أسلحة دمار شامل في العراق، ولا إرهاب "اندحر" في سورية، بل هناك صراع قوى وكسر عظم ومناوشة وحوش تجاه بعضها بعضًا فوق أراضي الغير وإشعال حروبٍ لا أحد يتكهن بمداها الزمني، حتى لو كانت نتيجتها انهيار دول أو فناءها أو تهجير شعوب من أوطانها بعد قتل مئات الآلاف منهم. بل أين هو الجانب الصحيح من التاريخ، والعالم في غالبيته، يغضّ الطرف عن جرائم إسرائيل وعن أنها دولة احتلال باعتراف الأمم المتحدة، وهي ماشية باطّراد في تمكين استيطانها والسطو على تاريخ الشعب الفلسطيني وحاضره وأرضه؟
أوروبا توارب في ماضيها الاستعماري، وتهرُب من مواجهة لحظة الحقيقة التي عليها بموجبها الاعتراف بجرائمها بحق شعوبٍ بعيدة عنها
أين هو الجانب الصحيح من التاريخ وأوروبا توارب في ماضيها الاستعماري، وتهرُب من مواجهة لحظة الحقيقة التي عليها بموجبها الاعتراف بجرائمها بحق شعوبٍ بعيدة عنها، في أفريقيا وفي منطقتنا العربية؟ أين هو الجانب الصحيح من التاريخ في ماضي روسيا القيصرية الذي يستعيده بوتين اليوم، مدفوعًا بأقصى درجات البارانويا وجنون العظمة، بل وماضي الاتحاد السوفييتي في ممارساتٍ متنوعةٍ تُحسب عليه؟ وأين هو أيضًا في ما ارتكبته الإمبراطورية العثمانية من إبادات، أكثرها بحق الشعب الأرمني؟ في ماضي البشرية وحاضرها لم يرتح التاريخ من أن يشهد المجازر والجرائم ضد الإنسانية والاعتداء على الشعوب وقتل المدنيين بالآلاف، بل والملايين، حتى اليابان في ماضيها الإمبريالي قامت بجرائم حرب في بلدانٍ عديدة في آسيا والمحيط الهادئ، خلال فترة الإمبريالية اليابانية، في أثناء الحرب اليابانية الصينية الثانية والحرب العالمية الثانية في المقام الأول، وقد وُصفت بعض الحوادث بمحرقة آسيا وفظائع الحرب اليابانية، اعتذر بعض كبار مسؤوليها عن بعض الجرائم بعد منتصف القرن الماضي، لكن اليابان اليوم من أقطاب القوة في العالم، ولا بد أنها تتخذ مواقف بما يخدم مصالحها وتحالفاتها.
الجانب الصحيح من التاريخ لم يُرسم بعد، الشعوب الحرّة ترسمه وتحدّد معالمه وإحداثياته. إنه، كنقطة بداية وحجر أساس، الوقوف في وجه الحرب أيًّا كان شكلها. الحروب هي القاتل الأكبر للبشرية، وها هي أزمة العالم اليوم، كورونا وما تبعها، ثم الغزو الروسي أوكرانيا في حربٍ شرسة، لا نرى أكثر من وجهها المباشر بما تقدّمه وسائل الإعلام التي لم يعد من الممكن تجاهل دورها المتعاظم في الحروب الحديثة، تدفع القوى الكبرى باتجاه مزيد من التسلح، وإعادة بناء جيوش الدول التي اعتبرت أن ما بعد الحرب العالمية الثانية كان عليه أن يغيّر النظام العالمي وسبل الصراع، كما أوروبا، لكن سباق التسلح عاد بقوة وزخم، ما يعني مزيدًا من الحروب، ويعني أيضًا مزيدًا من القتل والتشريد والتجويع والاستتباع وبناء جدران الفصل بين العالم الذي يعدّ نفسه متفوقًا وقويًّا، والعالم الآخر الذي يجب أن يبقى خاضعًا، تابعًا لسياسات العالم القوي، راهنًا بلدانه وخيراته ومناجمه وموارده له، يستحلبها حتى القطرة الأخيرة، ويجعل من أراضيه ممرّات لأنابيب نفطه أو طرقًا لقوافل تجارته، أو احتياطيًّا لاحتياجاته المستقبلية، وأسواقًا لمنتجاته.
الجانب الصحيح من التاريخ لم يُرسم بعد، الشعوب الحرّة ترسمه وتحدّد معالمه وإحداثياته
الجانب الصحيح من التاريخ أن تعي الشعوب أن قادتها يسيرون بالكوكب إلى حتفه بتسارعٍ رهيب، مدفوعين بنزعات السيطرة والقوة والحيازة والامتلاك. الموقف من الحرب إن لم يكن أخلاقيًّا، علينا اتخاذه ذرائعيًّا طالما أن الحروب تقضي على الحضارة الإنسانية وتظلم الشعوب، من أصغر حربٍ إلى أكبرها وأوسعها. وإذا اتخذنا قضية القمح وحدها مثالًا لما نتج عن الحرب في أوكرانيا، لكان هذا يكفي لأن يندى له جبين الإنسانية، لأن فقراء الأرض يعيشون على الخبز، والخبز وحده، وهذا ما على الشعوب الضعيفة أن تفهمه، وألّا تنصاع وراء سياسات حكامها، فهؤلاء، في غالبية مواقفهم، إن لم يكن فيها كلها، يبنون مواقفهم بموجب المصالح المحلية والإقليمية والدولية. وفي حالتنا، ليست لحكامها إرادة حرة من أجل قرار حر، حتى لو أرادوا وكان ضميرهم، وتاريخهم وأسلوب حكمهم، نزيهًا، وهو ليس نزيهًا.
انقسام الشعوب العربية بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا مريع، ولا يدعو إلى التفاؤل بما يسندون إليه مواقفهم، وانتظار أن تخرج هذه الشعوب من الحروب والأزمات التي لحقتها بتغيير يُبنى عليه، وأن تكون الأجيال القادمة قادرةً على البناء السليم. الجانب الصحيح من التاريخ يبدأ بتصحيح التاريخ، وحمايته من تدوينات المنتصر أو المهزوم، فكلاهما يجانب الحقيقة في مدوّنته، يبدأ من خلال الانتصار للحياة واعتبارها قيمة عزيزة من حق الشعوب والإنسانية جمعاء أن تعيشها كما تحلم. بغير هذا الأساس، لا يمكن فهم ما يعني الجانب الصحيح من التاريخ بالنسبة لقوة عظمى مثل الصين، طالما أنها أيضًا تجلس إلى مائدة العالم التي يتحلّق حولها الأقوياء، وتلعب معهم بطريقتها الخاصة، لا يمكن حماية البشرية وحماية كوكبنا من دون العمل على الحروب، وما تجرّه على المصير البشري، ها هي الانتكاسات تتتالى في سباق التسلح، وفي حرب الطاقة، وفي مسلسل العقوبات، وها هو العالم يزداد جوعًا، ويصبح رغيف الخبر حلمًا لدى فقراء العالم، هذا هو عالم اليوم.