في استعادة الشغف الهارب

29 سبتمبر 2022

(خوان جريس)

+ الخط -

"كيف أستعيد رغبتي في الكتابة؟ كيف أعود إلى لوحة المفاتيح؟ كنت في السابق أقضي الساعات الطويلة في القراءة والكتابة من دون أن أشعر بالتعب أو الملل، وكثير مما أكتبه لا يُنشر، وأعرف أنه لا يُنشر حتى قبل كتابته. ومع هذا أستمر في استحضار الكلمات وتكوين العبارات، مستمتعة بهذه المهمة التي تكاد تأخذ جلّ وقتي. لكنني لم أعد أفعل ذلك. لقد تسرّب الملل الذي يحلو لي أن أسمّيه التعب إليّ، فصرت أبحث عن حجج مناسبة تُبعدني عن لحظة الكتابة. تحوّل الأمر بعد ذلك إلى أنني أصبحتُ لا أمانع في الاتكاء على حجج واهية، بل ومضحكة أحياناً، لأجعلها السبب في ما أنا فيه .. ماذا أفعل كيف أعود إلى هوايتي الجميلة التي جفوتها.. ربما جفتني لشهور طويلة؟".

الفقرة أعلاه جزءٌ من رسالة طويلة وصلت إليّ من إحدى القارئات القديمات. أعرفها جيداً، وكنت دائماً أُعجب بكتاباتها التي تنشرها باسم مستعار في مدوّنتها الشخصية وفي حسابها على منصة إنستغرام. كنت ألحّ عليها في النشر باسمها الحقيقي في الصحيفة التي أعمل فيها، لكنها ترفض. وفي كل مرةٍ أحاول إقناعها كانت تتملّص من المحاولة بالقول إن الكتابة بالنسبة إليها مجرّد شغف شخصي، فهي تكتب فقط استجابة لذلك الشغف الذي يتملكها ويطوّق روحها، ولا يكاد يتركها حتى تشتعل أصابعها فوق لوحة المفاتيح كلماتٍ وجملاً على سبيل الشعر والنثر، وإنها كلما كتبت أكثر ازدادت عطشاً للأحرف، حتى تحولت الكتابة إلى ما يشبه الإدمان الجميل. تتملكها الرغبة فتركض إلى لوحة المفاتيح لتكتب، فتشعر بعد الانتهاء من أي نصٍّ جديد بأن رغبتها قد تضاعفت كمن يشرب من ماء البحر الأجاج ليزداد عطشاً.

ذهب هذا كله الآن، وأصبحت تتهرّب من لحظات الكتابة، بعد أن لاحظت أن الشغف قد تسرّب من شقوق الروح المهترئة إلى المجهول، وأنها أصبحت تبادر إلى الانشغال بكل ما يمكن الانشغال به، حتى لا تضطر لجلسة الكتابة التي تحوّلت من موعد مع اللذة والمتعة إلى موعد مع الحيرة والوجع والبلادة أيضاً.

من أين لي بحلّ سحري ينقذك من ورطتك، يا عزيزتي؟ كيف لي أن أنصحك بما لا يسعني فيه النصيحة ولا أملك منها ببابه شيئاً؟ أنا أيضاً تزورني تلك الحالة بين آونة وأخرى، حتى أكاد أفقد قدرتي على معرفة أماكن الأحرف أمامي، لكن الفرق بيني وبينك أن الكتابة بالنسبة لي ليست مجرّد هواية جميلة وحسب، بل هي أيضاً واحدةٌ من متطلبات العمل اليومي لدي، وهو ما ساعدني على ممارستها كتدريب يومي حتى لو لم أرغب في ذلك أحياناً. التدريب اليومي على الكتابة كما يبدو أحد أهم أسرار البقاء في فضائها طويلاً. وهو ما يفسّر حالات الحبسة التي تفاجئني بعد انتهاء فترة الإجازة من العمل. لكن هذا لا يكفي أحياناً. لذلك لا أجد مفرّاً من اللجوء إلى تلك الحيلة القديمة، وهي حيلة قراءة صفحة عندما أريد كتابة سطر واحد، وقراءة كتابٍ عندما أريد كتابة مقالةٍ من صفحات قليلة، وربما يلزمني الأمر قراءة رفٍّ كامل من الكتب قبل الشروع بتأليف كتاب.. وهكذا تنجح تلك الحيلة دائماً في العمل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لكنني أخيراً صرت أشعر بأننا لا ينبغي أن نلاحق الكلمات الهاربة، عندما تستعصي علينا، فمن يدري؟ لعلها مثل علاقاتٍ إنسانيةٍ كثيرة تحتاج إلى قليل، وأحياناً كثير، من البعيد لتستعيد لياقتها، وقدرتها على الاستمرار بين اثنين؟ لا أظن أن تلك القارئة والكاتبة الموهوبة قد استفادت مما قلته لها، ولا أظنّ أن نصائحي المبتورة قد ساعدتها في إذكاء شعلة الموهبة مجدّداً في نفسها، ولكنني متأكّدة أنها على الأقل شعرت بقليل من الاطمئنان أنها لا تعاني وحدها من تلك الحالة.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.