في أرض الطفولة
من قال إنها أرض الأحلام السعيدة لا تُنبت إلا بهجة وخفّة؟ من ادّعى أنها لا تعوّض وأن رغبة الرجوع إليها تبقى مقيمةً لا تبارح، فلا مجد يلهينا عنها أو نجاح يعزّينا عن فقدها المحتوم؟ لطالما كتبوا عنها دائماً بحنين، يفتقدونها لأنهم كانوا خلالها أحرارا، لا يقضّ مضاجعهم همّ، يتسلّقون درجات الوعي بثقة وبهجة، ويُقدمون على حياة تعدهم بالكثير!
هي بالفعل أرضٌ شاسعة، حتى ليقال عنها بلاد، أو ربما قارّة، أو كوكب بعيد يسير فيه الناس على رؤوسهم، وتنبُت لهم عيونٌ في مؤخّرة الرأس، ولهم أقدامٌ يكفي أن يخبطوا بها قليلاً حتى يتمكّنوا من الطيران. هناك، تطير الأفيال، وتتكلم النباتات، وتتمايل الأبنية، وثمّة كائناتٌ صغيرةٌ سرّية تخرج من تحت التراب، أو تعشّش في الأشجار، تنزل إليك أحياناً وتقيم في أذنك تهمس لك، وتقودك، وتحثّك على خوض المغامرات. لا شيء مستحيلا هناك، والأدوات الغريبة العجيبة التي لم يخترعها بعدُ إنسان، متوفرة كما شئت ومتى شئت. لماذا؟ لأنك طفل، والطفل لا يسرّ دوما بما يقدّمه له الواقع أو بما يسرقه منه أو يُجبره عليه، ولأن الواقع هو الحياة، والحياة لا تني تتكشّف عمّا لا يسرّ النظرَ ولا يُبهج الفؤادَ، فلا يتبقّى إلا الخيال. أجل، قوة الطفل في خياله. إنه الدرع والسلاح والذخيرة، ومن دونها العيشُ مستحيل.
لا أدري إن كان الأطفالُ أكثر سعادة في أيام مضت. أنا لا أصدّق بسهولة ما يشاع وما يقال. نخلق باكين، نتلقى الصفعة الأولى لحظة ولادتنا لكي يدبّ في عروقنا تيار الحياة. هذا فَقْدٌ أوّل لذاك البيت النديّ، الدافئ، لذلك الرحم الذي سنبقى دوماً نحنّ إليه. ما الذي أخرجنا هكذا من العتمة إلى فجور الضوء، من ذا الذي قصّ حبل الأمان ذاك، ثم فصلنا عن رحمٍ نتكوّن فيه غير عالمين بما ينتظرنا حين سنُخرَج عنوةً منه. الانفصال الأول، الهجرة الأولى إلى عالمٍ لم نختر السقوط فيه. رحلة آلام. ما زلنا لا نرى اللون ولا نميّز الأشياء، تقودنا الرائحة ويهدينا الصوت، وتوجعنا أعضاؤنا التي تتلمّس طريقها إلى الوجود. أمعاؤنا التي تعتاد أول الأطعمة الجامدة بعد الحليب، أسناننا التي تخرج مثل مخالب تمزّق اللحم.
أرض الطفولة، كم ننسى من تضاريسها فلا يتبقّى إلا أحاديث الكبار عنها، ألبومٌ مزروعٌ بصورٍ يقال لنا إن من يقيمون فيها هم نحن. وجهُ الأم يلوح متبسّماً أو غاضبا، لحظةُ الفراق بقسوتها وضرورة الخروج من البيت إلى عالم يسكنه أغراب، إلى مكان يسمّونه الحضانة أو المدرسة، حيث ينبغي لك تعلّم شيءٍ كريهٍ اسمه النظام. أهلك الذين يتبسمون لك ثم يغادرونك، فتظنّ أنهم تخلّصوا منك ولن يعودوا. ثم الخوف، الكثير من الخوف بكل نكهاته وأشكاله، الخوف من العتمة، من الغرباء الذين ينظرون إليك كما لو كنت وجبة طعام، وتمتدّ أياديهم إلي حيث يجب ألا تمتد. الخوف من الأشباح التي تظهر ليلا خلف النافذة، تسكن الخزائن، تهمس وتخربش تحت الأسرّة، أو تنتظرك في بين الخلاء لتؤذيك، فتبول على نفسك وقد شلّ الذعرُ أطرافك ومنعك من النهوض. ثم اكتشاف معنى الفناء، إدراك كنهه ومعنى أن تموت! النملة التي دهستَها توقّفت عن الحراك. والزهرة التي قطفتها ذبلت. والعصفور الذي وقعت عليه تحت الشجرة وأنت في الطريق، غافٍ كخشبة. تهزّه فلا يتحرك، لا يستجيب، تنتابك قشعريرةٌ يتنتّع لها بدنُك الصغير وقد أدركت بحدسك أنه قد انتهى ولن يعود.
أجل، كل الكائنات تفنى وتموت. تستيقظ ليلاً على أطراف أصابع قدميك، برغم الخوف، برغم البرودة، تتقدّم من غرفة والديك، تنحني فوق وجه الأم، ما زالت تتنفّس، تقترب من الأب، هو الآخر ما يزال على قيد الحياة. شكراً يا ربُّ منحتنا يوما آخر! تضع اللحاف فوق رأسك، تمسح دمعتيْك، ما زال هناك متسّع من الوقت. والآن، بمَ تراني سأحلم قبل أن أنام؟