غزّة والباطنية السياسية العربية
نشر موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، نقلًا عن صحيفة نيويورك تايمز مقالًا بتوقيع دنيس روس، وهو اسم كبير في عالم السياسة الأميركية، نكأ جرحًا عربيًا عميقًا! عنوانه "ربما كُنت أُفضّل ذات يوم وقف إطلاق النار مع حماس، ولكن ليس في أيّامنا هذه". يقول السياسي المخضرم كاتب المقال إنه، على مدى 35 عامًا، كرّس حياته المهنية للسياسة الأميركية المتعلقة بصنع السلام وحلّ النزاعات، و"لم يكن هناك ما شغلني أكثر من إيجاد حلٍ سلمي ودائم بين إسرائيل والفلسطينيين". وأسباب تغير موقف دنيس روس (كما يقول هو) أن إسرائيليين كثيرين أصبحوا يروْن أن بقاءهم دولة أصبح على المحكّ. ويضيف روس "كما قال أحد القادة العسكريين الإسرائيليين: "إذا لم تُهزم حماس فلن نتمكّن من البقاء هنا"!
الجرح العربي العميق الذي نكأه مقال روس يشير إليه قوله: "ليست إسرائيل الوحيدة التي تعتقد أن عليها هزيمة حماس"... عندما تحدّثتُ مع مسؤولين عرب في مختلف أنحاء المنطقة الذين أعرفهم منذ فترةٍ طويلة، قال لي كل واحدٍ منهم إنه لا بد من تدمير "حماس" في غزّة. وأوضحوا أنه إذا اعتُبرت "حماس" منتصرةً، فذلك سيضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي تتبنّاها هذه الجماعة، ويمنح إيران والمتعاونين معها نفوذًا وزخمًا، ويضع حكوماتهم في موقفٍ دفاعي". ويضيف: "لكنهم قالوا ذلك في السرّ، أمّا مواقفهم العلنية فقد كانت مختلفة تمامًا".
والسؤال: إلى متى تستمر هذه الباطنية السياسية العربية؟ لا يستطيع كل قاموس مفردات الفذلكة السياسية إخفاء عورة هذه الكارثة المزمنة، خطاب سياسي رسمي عربي مزدوج، له ظاهر وباطن، وهو أخطر ألف مرّة من خطيئة "ازدواج المعايير" التي لطالما آلمنا أن يرتكبها الغرب بحقّ قضايانا، فالغرب يلعب هذه اللعبة الانتقائية، وهي، في كل الأحوال، مُدانة، ليمنح عنصريته المتأصلة، رئة تتنفّس بها، أما الازدواجية الباطنية فتنتحل معاذير مرفوضة بكل المعايير لتحقيق غرض واحد: خداع شعوبها.
السرّية من وسائل إدارة الدولة قديمًا وحديثًا، لكنها تكون مشروعة في الوسائل والتفاصيل، ولا تكون مشروعة في الأهداف العامة والتوجّهات الاستراتيجية
وليست شهادة دنيس روس الوحيدة، لكنها شهادة سياسي من العيار الثقيل، وصياغتها صادمة إلى أقصى درجة، وتتصل باختبار تاريخي غير مسبوق منذ عقود، ومنشورة في منبر مؤثر جدًا، وهي بالتالي "شهادة نادرة" على ظاهرةٍ لطالما جلبت الإشارة إليها قائمة اتهام طويلة وقاسية على صاحبها، فمن يروْن القسم الأكبر من القرار السياسي العربي متعارضًا، تمام التعارض، مع القسم الأكبر من الخطاب السياسي العربي، كانوا دائمًا عُرضة للاتهام بالإيمان بـ "التفسير التآمري". ولكن، ما المؤامرة إن لم تكن "حرفيًا" ما وصفه دنيس روس؟
قد تخفّف استعارة مقولات التحليل السياسي وأدبياته أثر الصدمة (أو يضلّل المصدومين)، لكنها لا يمكن أن تبرّر الحقيقة الخطيرة التي قذفها دنيس روس في وجوهنا. ولا يمكن اعتبار ما قاله هذا السياسي الأميركي من دون مواربة حكمة ولا واقعية سياسية ولا نخبوية أبوية وصائية، بل استمراء لا مثيل له في عالم اليوم إلا في العالم العربي، لإخفاء الحقيقة وإعلان نقيضها. والسرّية من وسائل إدارة الدولة قديمًا وحديثًا، لكنها تكون مشروعة في الوسائل والتفاصيل، ولا تكون مشروعة في الأهداف العامة والتوجّهات الاستراتيجية. وأخطر ما في المقال التأثير المدمّر للصراع السياسي بين بعض النظم العربية وبعض الحركات الإسلامية، وانعكاساته على الموقف من حركة حماس، وتلك قنبلة يُعدّ نزع فتيلها من دون إرجاء.
وفي السياق نفسه، بعد ساعات من نشر مقال دنيس روس، لم يكن من قبيل المصادفة أن يعبر رئيس الوزارء الإسرائيلي، نتنياهو، عن فكرة مشابهة، إذ قال في مؤتمر صحافي، إن من سماهم أصدقاء إسرائيل في العالم العربي "يعرفون جيدًا أنه في حال هزيمة إسرائيل... فإن الدور سوف يأتي عليهم". وقد كانت "يهودية إسرائيل" أحد موضوعات الخلافات الكبيرة بين نظام حسني مبارك وإدارة جورج بوش الابن، فقد كان مبارك يخشى أن تؤسّس لشرعية حكم الإسلاميين في الدول العربية.
ومن تعليقات لا أنساها قول معلق إسرائيلي في جولة مواجهة سابقة بين "حماس" وإسرائيل، إن دولا عربية دانت إسرائيل (علنًا) تبارك حربها سرًا، لأنهم يخشون أن يتحكّم الإسلاميون في حياتهم... فهل هناك مقايضاة صريحة أو ضمنية بين "حياتهم" وقضايانا المصيرية؟