غزّة فريسة الفشل المُشتهى

16 ابريل 2024
+ الخط -

"أنا يوسفُ يا أبي. يا أبي، إخوتي لا يحبونني، لا يريدونني بينهم يا أبي. يعتدونَ عليّ ويرمونني بالحصى والكلامِ، يريدونني أن أموتَ لكي يمدحوني. وهم أوصدوا باب بيتك دوني. وهم طردوني من الحقلِ. هم سمّموا عنبي يا أبي. وهم حطّموا لُعبي يا أبي. حين مرّ النسيمُ ولاعبَ شَعري غاروا وثاروا عليَّ وثاروا عليك، فماذا صنعتُ لهم يا أبي؟" 
يعصرُ الكاتب ذاته أحيانًا فلا يجد ما يروي ظمأه الداخلي في انتقاء مواضيع الكتابة، وأحيانًا أُخرَ تقدحُ زنادَ فكره لوحةٌ فنيةٌ أو قصيدةُ شعرٍ أو حتى شاخصةٌ مرورية. تنقله لحظةُ الخطف هذه إلى مقارباتٍ استثنائية لم تكن لتخطر على باله في الأحوال العادية. تكثر هذه التخاطرات الداخلية، إن صحّ استخدام المصطلح، عند الكتّاب المحترفين وأولئك الموهوبين حتى لتكادُ تصبح إلهامًا، وليس غريباً على العرب أنهم استخدموا قديماً أوصافًا تدلّ على التخاطر مع الجنّ باعتباره سببًا لإلهامهم قصائدهم، وما وادي عبقر إلّا اسمٌ لوادي الجنّ. 
مررتُ على ذاتي، التي أقسمها بين السياسة والثقافة وشؤون الحياة اليوميّة بانحيازٍ إلى السياسة يكادُ يسبّب للأسرة كلّها مشكلات مزمنة، فوجدتها ممزّقة بين أقطاب الواقعيّة السياسية المتعددة، الخالية من كل إحساسٍ إنساني أو مشاعر من أي نوعٍ كانت، وبين ذاك الدفقِ البعيدِ من أحلامٍ غابرة كانت محركةً لمسار حياتي وحياة أفراد أسرتي خلال ثلاثة عشر عامًا خلت، وقد تكون هي ذاتها أو شبيه لها ما حرّك حيوات آلاف السوريين والسوريات يوم نفضوا عنهم غُبار الصمت! وقد تكون مثيلاتها من تراود أي فلسطيني عن نفسه كلّما خلد إلى روحه يسألها عن المصير. بحثتُ في جعبتي عن كلماتٍ أرخيها ستاراً بين الواقع والحلم، أسطّرها على لوحة مفاتيح الحاسب لتندرج في موقع إلكتروني أو صحيفة، أو لتلقى في الركن عند مسؤول التحرير أو مديره أو المدقّق اللغوي، أو حتى لتبقى حبيسة غرف التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية، فلم أجد ما يسعفني لبدء مقالة ألامس فيها، من وجهة نظري المتواضعة، شأنًا فائق الأهمّية، راعف الدماء متجدّد الألم سوى قصيدة أنا يوسف يا أبي.

يوسف لا يموت، يوسف أرضٌ ارتوت بالمسك والعنبر، حلمٌ فاض عن الحقيقة وفاق الخيال

لكنّ محمود درويش، الذي أعشق شعره حتى طغى على ذائقتي التي باتت تزنُ كل كتابة أدبيّة بميزانه "الدرويشيّ"، أسعفني إذ اختصر عليّ بتكثيفه الخارق لنواميس الطبيعة ما يختلج بين ضلوعي ويجول في عقلي من أفكار. فلماذا يكره يوسفَ الغزّاوي إخوتُه، وهل أعمتهم كلّهم الغيرة من حلمه بالوجود، أم هل يرون في مرآة وجهه صورة هزيمتهم وذلّهم وخذلانهم فيشيحون عنها وعنه كي لا يذكرهم بذواتهم المتيبسة؟ 
لكنّ يوسف الغزّاوي ليس وحيدًا في غيابة الجب، بل رمى الدهرُ معه إخوته من أمّه العروبة. يمدّ يوسف أصابع يديه الغضّتين ليتحسس جدران البئر، فترتسم أمامه في وحشة الظلماء وجوه من قضوا نحبهم في حفرة التضامن وساحة رابعة وأحياء الموصل وشوارع بيروت وضفاف النيل الأزرق. ورغم أنّه لا يهمّ الشاة السلخ بعد الذبح، إلا أنّ الإيناس يأتي من مجاورة من نحبّ ولو في القبور.
لكنّ يوسف لا يموت، يوسف أرضٌ ارتوت بالمسك والعنبر، حلمٌ فاض عن الحقيقة وفاق الخيال، يوسف أنشودة يغنيها القمر وتحرسها الشمس وتسقي نُسغها كلمات الله المعجزات، تلك التي ينفدُ البحر لو كان مدادًا لها وهي لا تنفد. يوسف الآن قلادةٌ تحملها أعناق الفتيات، وأيقونة تتدلّى من سقوف المنازل فترخي ظلالها على الجدران راسمة ضمير البشرية المعذّب. يوسف الآن أنشودة للشباب تحرس صوتهم من النسيان وتبعد عنهم الردى، يوسف الآن تميمة التمائم.
من أنا لأقول لكم من هو يوسف، أو لأقول لكم ما أقول لكم؟ هل أنا محمود درويش الذي كان حجرًا فصقلته المياه فأصبح وجهًا، وكان قصبًا ثقبته الرياحُ فأصبح نايًا؟ أنا واحدٌ مثلكم، حجرٌ مرصوفٌ في جدار البئر، أنا لوحة علّقها قائد الجيش نيشانًا على بِزّته التي تقطر دماءً وأرواحًا معذّبة، أنا أنتم وكلّ واحد منكم. أنا ابن غزّة كما ابن درعا، وهاشم الذي ضمّ ثراها رفاته هو جدّي، وتسري في عروقي بقيّة من دمائه، وفي وجداني أنّ الأرض لي والهواء والبحر لي، غزّة لي كما درعا لي أيضًا، ولن تبقى فريسة الفشل المشتهى من إخوتي يا أبي.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود