غزّة التي تهدّد سلام العالم!
أحد الملامح المخيفة في مشهد الحرب على غزّة الإلحاح الإسرائيلي/ الغربي على غزّة "تهديدا لسلام العالم"، مغالطة تحريضية تتردّد بصياغات مختلفة في خطاب السفاح الصهيوني بنيامين نتنياهو، وأصوات غربية أخرى، لا يكاد من يسمع خطابها يعرف من أن يأتي "الصوت" ومن أين يأتي "الصدى". ومرة أخرى وربما ثالثة أو حتى عاشرة، تُنشر معلومات ذات مصداقية عن تطابق في الرؤية يجمع الأكثر تطرّفًا في التحالف الإسرائيلي الغربي ونُخب رسمية عربية في سلة واحدة. فعلى سبيل المثال، بحسب موقع دويتشه فيله الألماني: "ذكرت مجلة الإيكونوميست في تقرير أنه "في محادثات غير رسمية، تحدّث مسؤولون عرب عن حماس وغزّة بنبرة يُتوقع أن تصدر من اليمين الإسرائيلي". (دويتشه فيله 13/ 11/ 2023).
وتعلمنا تجارب في التاريخ أن إحدى أسوأ الفئات في التاريخ نخب قرّرت "انتداب" نفسها لحماية ما يتصوّرون هم أنه "سلام العالم"، وفي التاريخ الغربي الحديث بصفة خاصة قائمة طويلة من الأفراد والجماعات نصّبوا أنفسهم "أوصياء" على سلام العالم. وارتبط هذا الخطاب، غالبا، بمقولات ترتبط بالحضارة: "حماية الحضارة من البرابرة"، "نشر الحضارة بين البدائيين"، وقد ترتب على هذا التصور الفوقي المرضي من الكوارث ما يفوق أكثر أفعال البرابرة دموية.
كان الفرنسيون أحد أبرز الأمثلة على تحكّم هذه الخرافة في سلوكهم الاستعماري، فنشروا الخراب وسفكوا الدماء بلا رحمة في دولٍ عديدة احتلوها، وفي الجزائر وحدها من شواهد جرائمهم وهم "ينشرون الحضارة" بالبارود، ما يُغني عن ضرب أمثلة أخرى. ويلحّ مثقفون علمانيون عرب متشدّدون على أكذوبة أن الإسلاميين خطر على الحضارة، وأن التضامن مع المقاومة الفلسطينية يفقد "عقلانيته" ما لم تكن هذه المعارضة "علمانية"، وتمتلئ منابر إعلامية عربية الآن بهذا الهراء السخيف، من دون أمانة ومن دون بصيرة، وبالتضادّ التام مع حقائق التاريخ.
ومن القصص الموحية ما رواه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في مقالاتٍ جُمعت في كتاب بعد وفاته ("كنت شيوعيًا") وفيه أنه ذهب إلى إيران بعد الانقلاب على حكومة محمد مصدق في إيران (1953)، للقاء قيادات الشيوعيين الإيرانيين لفهم أكثر وضوحًا لما حدث. خلاصة ما قاله له شيوعيون إيرانيون إن "سلام العالم" أهم من الأماني الوطنية لعشرين مليون إيراني (كان هذا عدد سكانها تقريبًا آنذاك)، وهم بالتالي كانوا قادرين على منع الانقلاب على مصدّق وأحجموا عن ذلك عمدًا، حتى لا يكون احتمال لنشوب صراع أميركي – سوفييتي بسبب إيران!
توهم أن "حماية الذات" مشروطة بـ "إبادة الآخر" مرض خطير، وأحد أمثلته الواضحة خطاب الوزير الإرهابي بتسلئيل سموترتيش عن "هجرة طوعية" من غزّة تنقذ العرب والصهاينة معًا!
"خماسي كيمبريدج" الذين كانوا باحثين في المشروع النووي البريطاني، واقتنعوا بأن انفراد الغرب الرأسمالي بقيادة أميركا بالخيار النووي، يهدّد "سلام العالم"، فارتكبوا، بدمٍ باردٍ، جريمة خيانة عظمى بتسريب أسرار القنبلة النووية للاتحاد السوفييتي. ولأسبابٍ مشابهة جزئيًا ارتكب عديدون بينهم: البريطانيان كيم فيلبي وجورج بليك، والأميركي جوناثان بولارد، جريمة الخيانة. تتكرّر أمثال هذا الموقف في عالمنا العربي بتفاصيل متشابهة (كليًا أو جزئيًا) وفي قضايا مصيرية.
وقد كرّر نتنياهو ربط حربه (الأكثر بربرية في التاريخ) على غزّة بحماية الحضارة. وهو يسعى إلى إعادة الحياة إلى مومياء "عبء الرجل الأبيض"، حيث يحقّ لهؤلاء قتل الملايين لنشر الحضارة، والدفاع عن الحضارة، وهزيمة البرابرة. وأخيرا، ردّد الفكرة نفسها في ردّه على رئيس الوزراء الكندي، جاستين ترودو، الذي طالب بوقف قتل الأطفال، إن "قوى الحضارة يجب أن تساند إسرائيل لهزيمة الهمجية".
ويميل معتنقو هذه الفكرة، غالبًا، لإنكار أية مرجعية تتجاوزهم: الدين، الأخلاق، الجغرافيا، التاريخ، القيم. وقد لفت نظري في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في القرآن الكريم المنطق المعوج الذي تبنّاه إخوته: "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ"، فكيف يكون القتل طريقًا إلى الصلاح.
توهم أن "حماية الذات" مشروطة بـ "إبادة الآخر" مرض خطير، وأحد أمثلته الواضحة خطاب الوزير الإرهابي بتسلئيل سموترتيش عن "هجرة طوعية" من غزّة تنقذ العرب والصهاينة معًا! وغزّة في خطاب متنفذين ومثقفين عرب قرّروا عزل أنفهسم في "جيتو حماة سلام العالم" مقتنعون حتى الثمالة بأن القضاء على حماس (بإبادة فلسطينيي غزّة) شرط موضوعي لإنقاذ الحضارة!