عودة إسرائيلية إلى نقطة الصفر
كيف سيحتفل الإسرائيليون بذكرى إقامة دولتهم على أرض فلسطين هذا الأسبوع، والتي يسمّونها عيد الاستقلال. بالنسبة للفلسطينيين في الدولة العبرية، سارعوا إلى الاحتفال هذا العام، وفي وقت مبكر، بالمناسبة، وذلك بالتوافد على القدس، على المدينة القديمة بالذات، وصولاً إلى المسجد الأقصى وباحاته، من أجل المرابطة والصلاة فيه والوقوف جنبا إلى جنب مع أبناء شعبهم في الضفة الغربية المحتلة، في مواجهة حلف الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين والأحزاب الدينية والقومية المتطرّفة. ومع اشتداد وتيرة التطورات مع سعي حكومة بنيامين نتنياهو لتنفيذ فصلٍ جديد من فصول التطهير العرقي في حي الشيخ جرّاح، بالتزامن مع اقتحاماتٍ مشينةٍ لجنود إسرائيليين للمسجد الأقصى، والتنكيل بالمصلين داخله، ومع انتفاضة شبّان القدس ضد هذه الإجراءات، ومعها وضع حواجز حديدية في باب العمود، لمنع تدفق المصلين إلى الأقصى، فقد سرت شرارة الاحتقان إلى قطاع غزة وعموم الضفة الغربية المحتلة، وصولاً إلى المدن والبلدات العربية داخل الخط الأخضر. إذ يدرك فلسطينيو الداخل، بخبرتهم الحسّية الطويلة والمريرة، أن التمييز القائم ضدهم في مجال الحقوق المدنية إنما يتم، منذ أمد طويل، على أساس قومي، لكونهم عربًا وفلسطينيين، ما سرّع، في الأعوام الأخيرة، من نمو الوعي الوطني في أوساط الأقلية الفلسطينية القومية. وحين انفجرت الأحداث مساء الاثنين الماضي، كان الاحتقان ينفجر في صدور فلسطينيي الداخل الذين انضموا إلى شعبهم في مظاهر سخط واحتجاج على الممارسات الإسرائيلية هنا وهناك. ولمراقب إسرائيلي أن يستخلص أن جهود أكثر من سبعة عقود لأسرلة عرب الداخل في سبيلها إلى التبدّد. ولمراقبٍ من فلسطينيي الداخل أن يلاحظ أن ما جرى في الأيام القليلة الماضية ضد الاحتجاجات الشعبية ليس جديدا من نوعه، فما أشبه اليوم بالبارحة، حين انفلتت العصابات الصهيونية إلى التنكيل بأبناء البلاد في العام 1948، فليس لدى الإسرائيليين من سياسةٍ سوى الاستئصال متعدّد الأشكال لأبناء البلد، بما في ذلك التصفيات الجسدية، وسلب الأرض وإحراق المساجد والسيارات والممتلكات.
لم تؤدّ 73 عاما من الحروب، وتطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية، وجلب اليهود من أصقاع الأرض، ليحلوا محل أصحاب الأرض، ومعها اتفاقيات سلام مع دول عربية، سوى إلى العودة إلى المربع الأول، فالدولة التي قامت على أساس استعمار استيطاني إحلالي لم تفقد هذه الهوية وخصائصها، على الرغم من بناء المؤسسات ووضع ركائز حياةٍ ديمقراطيةٍ ركنها الكنيست، فالديمقراطية الصهيونية إذ تستبطن وتُظهر المنحى العنصري تجاه غير اليهود، وتجاه أبناء البلاد الأصليين، فإنها تنفي نفسها بنفسها، فبينما تقوم مهام الشرطة في الدول الديمقراطية على إنفاذ القانون وحماية الجميع، فإن جل جهود الشرطة الإسرائيلية يتركّز على حماية المعتدين الإسرائيليين، والتنكيل بالمعتدى عليهم وتوقيفهم، وهي سياسة توصف بالأبارتهايد، وتُضاف إليها هوية الدولة، الدينية والتمييزية، ضد غير اليهود، وضد العرب.
ليست هناك مسافة سياسية ونفسية تُذكر بين الضفة والقطاع، وكذلك بينهما من جهة وبين فلسطينيي الداخل من جهة ثانية
أما العدد الأكبر من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، فقد اكتشفوا مجدّدا الروابط الحية التي تجمعهم بأبناء العام 1948، وتعدادهم نحو مليون و800 ألف نسمة، وبما نسبته نحو 20% من سكان الدولة العبرية. ومع اليقظة المتجدّدة لهذه الروابط، يتجدّد الوعي بأن أشقاءهم وراء الخط الأخضر يتعرّضون لاحتلال مُقنّع، وأنه يكفي أن يقوم هؤلاء ببعض نشاطات احتجاجية حتى يسقط القناع عن هذا الاحتلال الذي حاول طويلا مقايضة فُتات الحقوق المدنية لفلسطينيي الداخل بتخلّي هؤلاء عن هويتهم القومية عن جذورهم ومكونات شخصيتهم الوطنية، وعن علاقتهم بأرض آبائهم وأجدادهم التي تسبق علاقتهم بالدولة العبرية.
ومن المفارقات أنه، قبل أسابيع فقط، ومع إجراء الانتخابات الرابعة، ابتهج سياسيون في اليمين الإسرائيلي بأن انشقاق القائمة العربية، برئاسة منصور عباس، عن القائمة المشتركة، وصعودها بأربعة نواب، إنما يمثل انتصارا لمخططات دفع فلسطينيي الداخل إلى التخلي عن هويتهم القومية، وذلك مقابل وعود برفع الميزانيات لبلدات عربية، وتوسيع رقع البناء في هذه البلدات. وقد جاءت تطورات الأيام القليلة الماضية لتثبت زيف هذه الادعاءات، والتي انبنت على تقديراتٍ لمزاجٍ سياسي ساد فترة طارئة وقصيرة، وليتبين أن القوى الحية من الجمهور الفلسطيني تذهب حتى أبعد مما تدعو إليه القائمة المشتركة. وقد كان لافتاً أن شرارة الاحتجاجات اندلعت أولاً في مدينة اللد التي يشكل الفلسطينيون أقلية فيها، ولم تكن هذه المدينة تعتبر ناشطةً سياسيا في المنظور الإسرائيلي، وذلك بعد عقود من العمل الرسمي الممنهج على تحويل اللد وشقيقتها الرملة إلى بؤرةٍ لتفشّي المخدرات، وما يتصل بذلك من آفات اجتماعية.
باستثناء ممالأة أميركية موروثة، بدا العالم يقف في صف الفلسطينين التائقين للتحرّر الوطني
مجدّدا كيف سيحتفل الإسرائيليون بذكرى نشوء دولتهم هذه الأيام؟ كما يرى الرائي، فإنهم يشغلون سماء غزة ببروق القصف، بدلاً من إشعال الشعلة التقليدية في المناسبة، ويتلقون، في الوقت نفسه، صواريخ غزة التي أمطرت تل أبيب أياما. تل أبيب التي باتت مركزا لـ"قوة عالمية"، كما وصفها نتنياهو بعد موجة التطبيع العربية، ردا على قول قائل إن الدولة العبرية باتت قوة إقليمية. وبعدما شاعت قناعة إسرائيلية بأنهم هزموا الفلسطينيين والعرب سلماً وحرباً. وعلى الجبهة الفلسطينية بالذات، فقد استثمر الإسرائيليون في الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فإذا بصواريخ غزة تنطلق تجاوبا مع نداءات القدس والمقدسيين، وثبت أنه ليست هناك مسافة سياسية ونفسية تُذكر بين الضفة والقطاع، وكذلك بينهما من جهة وبين فلسطينيي الداخل من جهة ثانية. وقد نجح الصمود الباسل للمكونات الثلاثة مع العنجهية الصهيونية في إعادة إحياء وحدة الشعب الواحد، واستحضار القضية الفلسطينية على رأس جدول الأعمال الإقليمي والدولي. وباستثناء ممالأة أميركية موروثة، فقد بدا العالم يقف في صف الفلسطينيين التائقين للتحرّر الوطني، وللخلاص من الكولونيالية العنصرية الصهيونية. وبدت "القوة العالمية" متوحشة محكومة بغرائزها العمياء، ومدمنةً على التمرّد على القانون الدولي والإنساني، وذلك على الرغم من جهود متراكمة للتمويه على طبيعة هذه الدولة، وعلى الرغم من مدائح تلقّتها هذه الدولة من مطبّعين عرب وأفارقة، وهو ما أعاد الأمور استراتيجياً إلى نقطة قريبة من الصفر. وما شكّل تحدّياً للإدارة الديمقراطية في واشنطن التي تعمل على مراجعة مجمل سياستها الخارجية، لكن هذه الإدارة، إذ سعت إلى تقليل الاهتمام بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك اتقاءً لعش الدبابير الصهيوني في الداخل الأميركي، إلا أن تطوّرات هذا الأسبوع دفعت واشنطن دفعاً إلى التعامل مع هذا الملف، وستبرهن الأسابيع المقبلة، إذا كانت واشنطن سوف تنجح في اتباع سياسة جدّية متوازنة وفاعلة، حيال هذا الملف أو أن تستسلم أمام الأوامر الإسرائيلية للمسؤولين الأميركيين: لا تتدخلوا.