الوزيرة الألمانية الخضراء أيقونة التطرّف
لم تحمل تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك أخيراً مفاجأةً كبيرة، إذ دأبت الوزيرة على إطلاق تصريحات مماثلة تتعلّق بدولة الاحتلال الإسرائيلي، تتركّز في أنّ هذه الدولة تستحق الدعم أكثر من ضحاياها، مع محاولات مرتبكة للحديث بنبرة إنسانية. وليست تصريحاتها أمام البرلمان الألماني (البوندستاغ) بعيدةً من سياسة حكومة المستشار أولاف شولتز، التي تنحو المنحى نفسه، وفحواها أنّ الدولة العبرية المقامة في أرض فلسطين تمثّل ضحايا الهولوكوست، بما يرتّب دعماً تلقائياً ودائماً من ألمانيا لهذه الدولة، مهما ارتكبت بحقّ غيرها. ولا يقتصر الدعم الشامل ومتعدّد الأوجه على التعويضات المالية، إذ يشمل تبنّي الرواية الاسرائيلية أنّ ضحايا الصهيونية، والمعترضين عليها، إرهابيون يجب استئصالهم من أرض آبائهم وأجدادهم، متى فكّروا (أو حاولوا) في مقاومة من يحتلّ وطنهم. وبهذا التفكير السياسي (وما يتبعه من سلوك)، يستشعر الضمير الألماني الراحة، راحة التكفيرعن الإثم.
وواقع الحال أنّ هذه السياسة قديمة في بلاد الرايخ، ومنذ عهد أول مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كونراد أديناور، حين كانت ألمانيا (الغربية حينذاك) في قلب الكتلة الغربية المناوئة للاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة، وحيث كان دعم الدولة العبرية جزءاً ثابتاً من سياسة هذه الكتلة، التي ضمّت بريطانيا وفرنسا ودولاً أخرى بقيادة الولايات المتّحدة. ولم يكن منتظراً من حكومة المستشار الاشتراكي شولتز تغيير هذه السياسة، غير أنّ الظرف السياسي الحالي كان يتطلّب إبداء بعض الحساسية، والسعي إلى بعض التوازن وتهدئة الحماسة المفرطة تجاه تلّ أبيب. فقد وقعت حادثة السابع من أكتوبر/ 2023 في مستوطنات إسرائيلية مجاورة لقطاع غزّة المحاصر (انسحبت منه إسرائيل في 2005، وأبقت على حصاره برّاً وبحراً وجوّاً)، وفي أجواء من الانسداد السياسي تبتعد معه فرص استعادة الحقوق الفلسطينية. وقد رأت دولة الاحتلال بقيادة أقصى اليمين في هذا التطوّر فرصةً ليس للردّ على هذا الاختراق، بل للقيام بحرب إبادة ضدّ مظاهر الحياة والعمران في قطاع غزّة، وما يتخلّلها من تطهير عرقي للمدنيين. وقد سُجِّل على سبيل المثال اختفاء أكثر من ألف عائلة كاملة من السجلّ المدني (العائلة هنا تضمّ أجداداً وآباءً وزوجاتٍ وأبناءً وأحفاداً)، من جملة أكثر من 42 ألف ضحية معظمهم من المدنيين. لم تتحرّك محكمة العدل الدولية ولا المحكمة الجنائية الدولية من دون سبب، ولم تُدمَّر مقارّ ومخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة للأمم المتحدة سهواً، بل في إطار حملة تدميرية ممنهجة وصلت إلى اتّهام هذه المنظّمة الأممية بالإرهاب، وقتل أكثر من مائة من العاملين فيها. هذه التطوّرات المريعة لم تدفع الوزيرة الشابة بيربوك (44 عاماً) إلى إعادة التفكير والتوقّف في ومواجهة هول هذه الكارثة، إذ واظبت على زيارة تلّ أبيب، وإبداء دعم حكومة بلادها لحكومة بنيامين نتنياهو، القائمة بحرب الإبادة، مع حديثٍ مراوغٍ عن "ضرورة إيلاء الوضع الإنساني الاهتمام"، ومن غير أيّ إدانة لقتل الآلاف من الأطفال وربّات البيوت، وتدمير المستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة (منها الكنائس الأربع في القطاع).
الظرف السياسي الحالي كان يتطلّب إبداء بعض الحساسية، والسعي إلى بعض التوازن وتهدئة الحماسة الألمانية المفرطة تجاه تلّ أبيب
وبمناسبة مضي عام على اختراق "7 أكتوبر"، وانطلاق حرب الإبادة، رأت الوزيرة الخضراء (تمثّل حزب الخُضْر) أنّ استهداف المدنيين كان متوقَّعاً ومفهوماً لأنّ "الإرهابيين يختبئون في المرافق المدنية بين المدنيين"، ما يُفسّر قتل آلاف منهم، وتدمير آلاف البيوت والخيام على رؤوس أصحابها. وقد صادف أن تزامنت تصريحات الوزيرة مع عودة قوات الاحتلال إلى شمال قطاع غزّة، الذي سبق لها أن دمّرته منذ أكتوبر (2023)، فوفقاً لخطّة جنرالات متقاعدين اعتمدتها حكومة نتنياهو، يجب شنّ مزيد من الهجمات على أنقاض البيوت، وحرمان من بقي من السكّان من الماء والغذاء، وعلى أمل أن يكون بينهم إرهابيون. وإذا لم يكن هؤلاء بينهم، فإنّ التخلصّ من الفلسطينيين (400 ألف) هدف عسكري يستحقّ إنجازه. في هذا الوقت، كانت الوزيرة الألمانية تخاطب بملابس سوداء برلمانيِّي بلادها. وقليلا ما يرتدي الخُضر ثياباً سوداء، غير أنّه من المعروف من يحرص بين الناشطين السياسيين والاجتماعيين على ارتداء قمصان وسراويل سوداء.
لا تخرج آخر تصريحات أنالينا بيربوك من السياسة العامّة لألمانيا التي تفتقر إلى النزاهة والبعد الأخلاقي في قضايا الشرق الأوسط
من المفارقات الصارخة أنّ رئيس كتلة حزب البديل من أجل ألمانيا في البوندستاغ، تينو كروبالا، انتقد بشدّة الدعم الذي تقدّمه حكومة المستشار شولتز لإسرائيل من أسلحة وذخائر. وقال، في كلمة ألقاها، إنّ شحنات الأسلحة التي تقدّمها برلين لإسرائيل تعني قبولها جميع الخسائرَ المدنية من الجانبَين، وهو ما يجعل هذه الحكومة (من ضمنها الوزيرة بيربوك) تقف في يمين الحزب الذي يوصف بأنّه يمثّل اليمين المُتطرّف. وهو ما يكشف المنحدر الذي انزلق إليه حزب الخُضْر الألماني في التأييد الصريح لإرهاب الدولة الذي تمارسه تلّ أبيب في حقّ أكثر من مليونَي غزّي. وكان هذا الحزب قد نشأ في مطلع تسعينيّات القرن في بيئة اجتماعية وفكرية تناصر السلام وتنبذ العنف السياسي، وتدعو إلى إزالة الأسلحة والمنشآت النووية، ما جعله يتموضع في يسار الوسط، لكنّ هذا الحزب الألماني، وعلى يد رئيسته الحالية بيربوك، بات يتفوق على كلّ حزب وتيّار فاشي في أوروبا بالدعم المُشين لقتل الأطفال والنساء.
هذا مع الإقرار أنّ ما تفوّهت به رئيسة الدبلوماسية الألمانية لا يخرُج من السياسة العامّة لبلادها، وقد أثبتت هذه السياسة تجاه الملفّ الشرق الأوسطي افتقارها إلى النزاهة والبعد الأخلاقي، إذ اقترنت عملية التخلّص من الإرث النازي الثقيل بارتكاب خطيئة اخرى تجاه الضحايا الفلسطينيين، وكأنّ الخطأ، وفق هذه السياسة، حين يُضاف اليه خطأ آخر، تكون نتيجته واحدا صحيح، بينما الحصيلة هي خطآن متتابعان جسيمان.