عن قيس سعيّد والاستعمال السياسي البراغماتي للبورقيبية
لا أحد من أهل الفكر والسياسة والإعلام والاتصال في تونس وخارجها يمكن أن يلوم الرئيس قيس سعيّد على زيارة قبر الحبيب بورقيبة في الذكرى 22 لوفاته الموافق ليوم 6 إبريل/ نيسان 2022، وهي العادة التي دأب عليها منذ انتخابه رئيساً سنة 2019، وذلك لقراءة فاتحة الكتاب على روح أول رئيس للجمهورية التونسية، التي أُعلن عن انبعاثها على أنقاض الإيالة أو المملكة التونسية، من أعلى منبر المجلس القومي التأسيسي سنة 1957. لكن من حقّ المشتغلين بالشأن العام والعاملين في المجالين السياسي والإعلامي توجيه اللوم إلى الرئيس سعيّد على خلفية ممارسات ومواقف كان يزدريها ويندّد بها، ويعبّر عن رفضه لها عندما يمارسها آخرون، على غرار الموقف من زيارة بعض السياسيين قبر الرئيس بورقيبة في مدينة المنستير في ذكرى وفاته السنوية. فقد علّق سعيّد على مثل تلك الزيارات قبل توليه الرئاسة سنة 2017 في حوار إذاعي، قائلاً: "من يذهبون إلى قبر بورقيبة اليوم يبحثون عن مشروعية سياسية في رفات الموتى" معتبراً أنّ كثيرين ممن يزورون قبره كانوا معارضين له، وأنّ لبورقيبة مساوئ، مثل تعديل الدستور سنة 1975، ما مكّنه من الرئاسة مدى الحياة، رغم إحداثه ثورة في قضايا التعليم والمرأة. ويبدو أنّ الخطاب الذي ألقاه الرئيس قيس سعيّد على هامش زيارته قبر الحبيب بورقيبة الأسبوع الماضي يُظهر بوضوح أنّه ممن يبحثون عن مشروعية سياسية في القبور، ويستثمرون في الرأسمال التاريخي والسياسي الذي تركه بورقيبة، بعدما تنكّر له الدستوريون سنة 1987 مع مجيء زين العابدين بن علي إلى هرم السلطة، وإعادة تنظيم العمل الحزبي الدستوري بإعلان ولادة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي من بقايا حزب بورقيبة، الحزب الحر الدستوري الجديد الذي غيّر اسمه سنة 1964 إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، معتبرين أنّ الرجل كان عبئاً عليهم وعلى المرحلة الجديدة التي انطلقت آنذاك.
لم تُفضِ عملية اطلاع شاملة واسعة وعميقة على المدوّنة البورقيبية التي تتضمّن ببليوغرافيا من آلاف الدراسات والمقالات والكتب والمنشورات والمذكّرات والأطروحات الجامعية إلى العثور على نصٍّ واحد تناول فيه سعيّد الجامعي بورقيبة وتجربته السياسية مناضلاً في الحركة الوطنية وأحد قادتها البارزين (1934-1956) ورئيساً للحكومة (1956-1957) ثم رئيساً للجمهورية التونسية (1957-1987) بالنقد أو الانتقاد والمعارضة أو الإشادة والمناصرة والتأييد والموالاة. ولم تحتوِ تلك المدوّنة أيضاً أيّ تعاطفٍ مع الرئيس الحبيب بورقيبة في أثناء إقامته الجبرية التي عدّها بعضهم من أنواع السجن، الأمر الذي أدّى إلى حرمانه من حقوقه وحرّيته في التنقل والتواصل مع الآخرين، وإجباره على الإقامة في المنستير مسقط رأسه من سنة 1987 تاريخ الانقلاب الطبي الذي أزاحه من هرم السلطة إلى حين وفاته سنة 2000.
ليس من نصٍّ واحد تناول فيه سعيّد الجامعي بورقيبة وتجربته السياسية مناضلاً في الحركة الوطنية وأحد قادتها البارزين
وفي أثناء تلك الفترة، 13 سنة، تحيل المدوّنة البورقيبية على رسائل الوزير الأسبق ومدير الحزب الاشتراكي الدستوري، محمد الصيّاح، إلى الرئيس زين العابدين بن علي المنشورة في "الكتاب الأبيض: حول السنوات الأخيرة من حياة الرئيس الحبيب بورقيبة" الصادر عن رئاسة الجمهورية التونسية سنة 2013، تحيل على أنّ الصيّاح طالب في رسالة إلى بن علي مؤرخة في 5/4/1990 بفكّ عزلة بورقيبة قائلاً: "أتوجه إليكم بنداء ملؤه الأمل في أن تأذنوا بوضع حدّ في أقرب الأوقات لعزلة زعيمنا الوطني، وتمكينه على الأقل من استقبال كلّ من يأنس إليه ويرغب شخصياً في اللقاء به". وفي رسالة ثانية مؤرّخة في 16/5/1993 يضيف الصيّاح: "من أهم الدوافع لحرصي على الوفاء لبورقيبة وتمكينه على الأقل من حرية استقبال من يراه من أصدقائه إنّما هو رغبتي في أن تكون تونس وفيةً لكم أيضاً في الحاضر والمستقبل. وأن تتعوّد هكذا على السير في الطريق المؤدية وحدها إلى رقيّ الشعوب". كما تضع المدوّنة نفسها رسالة القيادي بالحزب الشيوعي التونسي وذي الأصول اليهودية المعروف بمناوأته للصهيونية، جورج عدّة، إلى بن علي بتاريخ 4/11/1997 في أعلى سلّم المطالبين بتحرير بورقيبة ومنحه حريته. جاء في تلك الرسالة: "أرجوكم، سيدي الرئيس، أن تعيدوا الحرية الكاملة والتامة في التنقل واستقبال الزوار لذاك الذي قاد شعبنا إلى الاستقلال الوطني، والذي كان طوال ثلاثين سنة أول رئيس لجمهوريتنا لمن أمضى بين سنتي 1934 و1955 عشر سنوات من حياته في السجن ومعسكر الاعتقال والمنفى والذي يعيش حالياً في هذه السنوات الأخيرة وهو على مشارف المائة سنة من العمر محروماً من الحرية في تونس المستقلّة... وإنّني أشعر الآن بالأسى لما أرى في بلدي واحداً من رفاقي القدامى في معسكر الاعتقال، وقد غدا أكبر مسنّ محروم من حريته في العالم، ويحزنني أن أرى من كان زعيماً لا يعيش حرّاً في تونس أو في ضواحيها".
ولم يقتصر المنزع المطالب بالحرّية للرئيس بورقيبة والخوض في تجربته قبل وفاته سنة 2000 على كلّ من الدستوري محمد الصيّاح والشيوعي جورج عدّة، فقد غامر المؤرّخ عبد الجليل التميمي صاحب مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات التي أصدرت عشرات المؤلفات عن البورقيبية، بتنظيم مؤتمر علمي تاريخي بعنوان "الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية: قراءات علمية للبورقيبية" في شهر ديسمبر/ كانون الأول سنة 1999، أي قبل سنة من وفاة بورقيبة، وجرى نشره في الشهر الذي شهد وفاته. ورغم مشاركة باحثين عديدين من مؤرّخين مثل مصطفى كريم ومحمد الهادي الشريف وعلي المحجوبي ومحمد الحبيب الهيلة وعدنان منصر وعبد اللطيف الحناشي ومحمد ضيف الله، وبعض السوسيولوجيين مثل ماهر تريمش وكاتب هذا المقال، فقد اقتصر حضور السياسيين على كلّ من القيادي الشيوعي جورج عدّة، ووزير الثقافة في الفترة البورقيبية، البشير بن سلامة، الذي واكب المؤتمر بصفته كاتباً وباحثاً ومؤلفاً. وبالعودة إلى الظروف التي انعقد فيها ذلك المؤتمر في مدينة زغوان (50 كيلومتراً عن العاصمة) واستحضار حيثياته، تسترجع ذاكرة الحاضرين الكم الهائل من أعوان البوليس السياسي الذين فاق عددهم عدد الباحثين والمهتمين الحاضرين في المؤتمر، وكانوا يجمعون المعلومات عن الحاضرين ويدوّنون كلّ محتويات المداخلات والأوراق والتعقيبات والمناقشات وإرسالها إلى الأجهزة الأمنية في وزارة الداخلية، وإلى عبد العزيز بن ضياء مستشار الرئيس بن علي الذي كان يخشى بورقيبة حتى وهو على فراش المرض والشيخوخة في أيامه الأخيرة.
تعامل السياسيين المعاصرين مع بورقيبة لم يكن مبدئياً، وإنما كان لتحقيق أغراض آنية، بما في ذلك زيارات سعيّد السنوية ضريح بورقيبة
لم تكن هناك بورقيبية أو بورقيبيون زمن حكم زين العابدين بن علي، ولم يتجرّأ أي دستوري على بعث جمعية أو صحيفة بورقيبية أو حزب بورقيبي، أو حتى إعلان نفسه صاحب انتماء بورقيبي، قبل وفاة بورقيبة سنة 2000 أو بعد ذلك التاريخ، وقد كان جميع الدستوريين ينشطون في حزب بن علي، التجمّع الدستوري الديمقراطي، إلّا من استثناه بن علي نفسه من النشاط لانتمائه للحرس القديم ممن كان متردّداً في مساندة الانقلاب الطبي سنة 1987، أو فقد سلطته ومنافعه بسبب ذلك الانقلاب. أما إحياء البورقيبية فقد كان من إكراميات الثورة التونسية سنة 2011، على يدي الرئيس السابق الباجي قائد السبسي وزير بورقيبة وأحد رجاله المخلصين، الذي أسّس حزب نداء تونس سنة 2012، وجعل مرجعيته بورقيبية.
وفي كلّ الأحوال، وبناء على عمليات الحفر في التاريخ السياسي التونسي المعاصر وفي التجربة البورقيبية وما كُتب حولها، يسهل الاستنتاج أنّ ما تعلنه بعض الأحزاب من انتماء وهوية بورقيبية هو من محض الافتراء على التاريخ، وتدحضه الحقائق التاريخية، فقد كان قادة تلك الأحزاب من القياديين البارزين في حزب بن علي، موالين له ومن خدمه المخلصين، وأيدوا سياساته الأمنية والزجرية، أو صمتوا على ما أتاه من مظالم تجاه بورقيبة. وأنّ تعامل السياسيين المعاصرين مع بورقيبة وتجربته لم يكن مبدئياً، وإنما كان براغماتياً مصلحياً لتحقيق أغراض سياسية آنية، بما في ذلك الزيارات السنوية للرئيس قيس سعيّد إلى ضريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.