عن غياب الثقافة البيئية
تمرّ المنطقة العربية بمنعطفات خطيرة وقاسية على جميع الأصعدة، لا سيما الاقتصادية والسياسية والأمنية، كما تعاني أيضاً من تبعات الأزمة البيئية التي تعصف بمجمل الكوكب، كما تجلّى في أزمة فيروس كورونا التي يعتبرها بعضهم أحد تجليات الأزمة البيئية المباشرة، نتيجة تلاعب الشركات الاقتصادية المهيمنة اقتصادياً وسياسياً بالتوازن البيئي، أو نتيجة تسرّب الفيروس من أحد مختبرات الفيروسات والتعديل الوراثي بشكل متعمد أو غير متعمّد. في كل الأحوال، وبعيداً عن منشأ فيروس كورنا، لا تكترث أنظمة المنطقة بأيٍّ من الأزمات التي تعصف بشعوب المنطقة، إذ ما استثنينا منها التي تهدّد سلطاتها المباشرة، الأمر الذي يضع على كاهل شعوب المنطقة مسؤولية التصدّي لمجمل هذه الأزمات بالوسائل والإمكانات المتاحة، وهو ما نشهده يومياً من خلال عمل الجمعيات والمنظمات الأهلية والمدنية، ومن خلال الاحتجاجات الشعبية المتواترة أخيراً. لكن وعلى الرغم من مظاهر حيوية الكتلة الاجتماعية ونشاطها في منطقتنا العربية، إلا أننا نادراً ما نسمع أو نلمس شعارات ومطالب وبرامج خلاقة تعكس وعياً شعبياً معنياً بالأزمة البيئية التي نعاني جميعاً منها، والتي تتحمّل السلطات عموماً مسؤوليتها، لا سيما في الدول الأكثر تحضراً وتأثيراً، من أميركا ودول الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى روسيا والصين.
تعتبر الأزمة البيئية قضية عالمية عابرة للحدود والقوميات، لكنها في الواقع أزمةٌ ذات تداعياتٍ متفاوتةٍ بشكل طفيف أحياناً، وبشكل صارخ وصادم في أحيانا أخرى
أما عالمياً؛ فقد تصدّر عنوان التغير المناخي والأزمة البيئية جدول أعمال قمة العشرين؛ أو هكذا أعلن؛ الأسبوع الماضي في روما، من دون أن يتمكّن المجتمعون من الاتفاق على محدّدات وضوابط عملية تحمي البيئة وتصون حقنا في الحياة الآمنة والسليمة، فأولويات المجتمعين واضحة وصريحة، وطبعاً متناقضة مع مصالح شعوب العالم، وخصوصاً شعوب منطقتنا العربية، في الحفاظ على بيئة مستدامة وآمنة لنا وللأجيال القادمة. كما بدأت قمة التغير المناخي في غلاسكو البريطانية بحضور 120 دولة منذ الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي ولغاية 12 منه من أجل التباحث في الأزمة البيئية والتغير المناخي، ووضع الحلول والإجراءات الواجب تنفيذها فوراً. ومرّة أخرى، سوف تنتهي القمة كما بدأت بتصريحاتٍ قلقة وحريصة على حماية الكوكب، وتعهّدات مبشرة وممارسات وسياسيات كارثية تحرق الأرض والحياة على سطحها بتسارع مرعبٍ وخطير.
قد يخيل لبعض المعنيين بقضايا شعوب منطقتنا أن القضايا البيئية مسألة ثانوية اليوم، نظراً إلى واقعنا البائس، وربما تكون قضية معيقة لمسارنا النضالي التحرّري والثوري والإصلاحي أيضاً، على اعتبارها ترفاً ثقافياً وسياسياً، في حين تبرز الوقائع أمراً مغايراً تماماً، أولاً بسبب الثمن الباهظ الذي تدفعه شعوب منطقتنا على المستوى الصحي المباشر، نتيجة تزايد الأمراض المستعصية على الشفاء، والتي تضرب دولنا بشكل كبير، والناتجة عن أزماتٍ كبرى، كفيروس كورونا، أو عن تلوّث بيئي إقليمي، كأزمة النفايات وحرق الغابات وتلويث الثروات المائية ودفن النفايات الكيميائية والنووية، وغيرها كثير من مظاهر التلوث البيئي. وثانياً، بحكم ترابط القضايا البيئية بالقضايا السياسية والاقتصادية، وبالتالي على اعتبارها أحد مظاهر الفشل السلطوي، بل الفساد السلطوي. وثالثا كونها نموذجاً واضحاً وصريحاً يكشف الترابط المصلحي الناظم لعلاقة أنظمة المنطقة مع النظام العالمي المسيطر، لا سيما الدول ذات الاقتصاديات الكبرى المتحكّمة بمجمل اقتصاديات الكرة الأرضية.
لا يمكن اعتبار الأزمة البيئية قضية منفصلة عن قضايا المنطقة وأزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية، بل تقع في صلبها
تعتبر الأزمة البيئية قضية عالمية عابرة للحدود والقوميات، لكنها في الواقع أزمةٌ ذات تداعياتٍ متفاوتةٍ بشكل طفيف أحياناً، وبشكل صارخ وصادم في أحيانا أخرى، ولا سيما تجاه شعوب ودول العالم الأفقر والأقل تقدّماً، كما في حالتنا، الأمر الذي يجب أن يجعل منها قضية محورية لدى هذه الشعوب التي تعاني الأَمرّين من تداعيات الأزمة البيئية والتغير المناخي، إذ تستحوذ دول العالم المتحضّر على مجمل وسائل الحماية الفردية والجماعية، كما تجلّى في تداعيات أزمة انتشار فيروس كورونا وأزمة تأمين اللقاحات. كما تعمل دول العالم المتحضّر على الحد من مظاهر التلوث البيئي محلياً، من خلال مجموعة من الإجراءات والقوانين الناظمة داخل دولها، مثل حماية الثروات المائية وتخفيض التلوث الهوائي وحماية الغابات والثروة الحيوانية وغيرها من الإجراءات، في حين تلعب هي ذاتها دوراً رئيسياً في انتهاك هذه الأمور خارج حدودها الجغرافية، وبالتحديد في دول العالم الثالث والدول المفقرة، من خلال شبكة علاقاتها المشبوهة مع النظم المسيطرة على هذه الدول. الأمر الذي تبلور في نقل الصناعات المضرّة بالبيئة من دول العالم المتحضّر إلى دول العالم غير المتحضر، وفي دفن النفايات الكيميائية والنووية في دول العالم الثالث، كما حصل وربما ما زال يحصل في سورية ومصر والسودان وغيرها. فضلاً عن تحويل دول العالم الثالث إلى حقول تجارب عملية لأشد أنواع الأسلحة الفتاكة والمضرّة بالبيئة ولسائر المنتجات المشابهة، ذات النتائج المدمّرة للبيئية والحياة في الوقت نفسه.
من ذلك كله، لا يمكن اعتبار الأزمة البيئية قضية منفصلة عن قضايا المنطقة وأزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية، بل على العكس تقع في صلبها، كما يمكن تحويل الملف البيئي إلى جسر يربط بين الموجات الثورية والاحتجاجية التي تجتاح منطقتنا من ناحية، وسائر الحركات الاحتجاجية العالمية، لا سيما التي تعي جيداً دور النظام العالمي والنمط الاقتصادي المهيمن في تدمير البيئة وفي أزمة الاحتباس الحراري من ناحية ثانية، الأمر الذي يكسب الحركات الثورية والاحتجاجية الصاعدة في المنطقة بعداً عالمياً مهماً، وحليفاً مبدئياً ثابتاً. أي يجب التعامل مع الملفات البيئية من زاويتين، اقتصادية وسياسية، على اعتبارها نموذجاً واضحاً عن فساد (وكارثية) الهياكل السياسية والاقتصادية المسيطرة محلياً وإقليمياً وعالمياً، ما يجعل من مهام الحركات الثورية والاحتجاجية الصاعدة اليوم في المنطقة تغيير هذا النمط المسيطر الذي انتهك حقوقنا الفردية والجماعية، بما فيها حقنا في بيئة سليمة وآمنة لنا وللأجيال القادمة. وعليه، الحركات الاحتجاجية مطالبة بطرح رؤى خلاقة، تعبر عن إدراكها المخاطر المحيطة بنا وبجميع شعوب العالم أولاً، وتقدّم ثانياً رؤية ثورية اقتصادية وسياسية إنمائية وبيئية في الوقت ذاته، وهو ما يكسبنا حلفاء جدداً على مستوى العالم أجمع، حلفاء قادرين على تعرية وفضح بل وربما مجابهة دور النظام العالمي في حماية النظام الإقليمي، المسيطر على ثرواتنا ومصائرنا وحقوقنا.