عن المقاومة الفلسطينية السلمية ومن يُفشلها

14 اغسطس 2024
+ الخط -

توحي مطالعة آراء قسمٍ من الفلسطينيين، منهم بعض محابي سلطة رام الله، بأنّ فصائل المقاومة الفلسطينية تقمع المقاومة السلمية، ليس في قطاع غزّة فقط، بل داخل فلسطين وخارجها أيضاً. إذ نطالع يوميًا توصيفاتٍ مطلقةً تدين العمل المقاوم المسلّح، وتحمّله مسؤولياتٍ لا يتحملها، منها ضياع العمل المقاوم السلمي أو تراجعه. الغريب هنا، تنوّع الفئات المشاركة في هذه الشطحات التي تضم في ما تضم كتّاباً ومحللين، منهم من يعدّ نفسه مفكّراً نقدياً!! مصدر الغرابة في قصور مطالعتهم الوضع الفلسطيني ذاته، الذي كُتِبت بشأنه تقارير ودراساتٌ ومقالاتٌ عديدةٌ معنيةٌ بدراسة أسباب تراجع المقاومة السلمية ليس اليوم فقط، بل على مدار السنوات الماضية.

يندرج هذا التوجّه القديم الجديد في سياق رفض العمل المقاوم المسلّح عمومًا، إذ يأخذ مظاهر مختلفةً، أو ذرائع متباينةً من فترةٍ إلى أخرى، تكثّف معظمها بعد "طوفان الأقصى"، لاعتباراتٍ عديدةٍ، منها، أو في مقدّمتها، عودة الثقة بالمقاومة المسلّحة شعبيّاً، الذي ترافق مع تراجع الأمل ليس بالحلّ السلمي فقط، بل وبإمكانية العيش (حتّى بذلٍ) في ظلّ الاحتلالٍ الصهيوني الكولونيالي الإحلالي الاستيطاني، الذي مارس ويمارس إبادةً جماعيةً مستمرةً، إلى جانب تهجيرٍ قسريٍ، وتطهيرٍ عرقيٍ، وتدميرٍ شاملٍ بحقّ الكلّ الفلسطيني، ليس في قطاع غزّة فحسب، بل في كلّ فلسطين، التي يقتل فيها المستوطنون (إلى جانب جيش الاحتلال) البشر والأشجار والحيوانات، ويسممون الآبار والمياه الجوفية، ويمنعون الماشية من الرعي إلّا إذا كانت مملوكةً لهم، ذلك كلّه بمشاركة جيش الاحتلال وحمايته، وبدعمٍ سياسيٍ وماليٍ رسميٍ من حكوماتهم المتعاقبة منذ اتفاق أوسلو، بل ومنذ النكبة الفلسطينية أيضًا، فضلاً عن الدعم الدولي.

يعود غياب مظاهر المقاومة السلمية إلى جملةٍ من الأسباب الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية، من أهمّ الأسباب الخارجية، التي لن نخوض في تفاصيلها الآن رغم أهمّيتها، سياسات الاحتلال القمعية والعقابية، إلى جانب سياسات المجتمع الدولي، والداعمين الرسميين وغير الرسميين المتحيزة إجمالاً إلى الاحتلال.

باتت المقاومة المسلّحة عند البعض مجرّد شماعةً لتعليق أخطائهم وقصورهم

في حين يبرز أوسلو وتداعياته في مقدّمة الأسباب الداخلية، عبر تدميره الممنهج للبنى الأهلية والمجتمعية والمهنية والطلابية الثورية، ومن ثمّ مأسستها ضمن مؤسسات دولةٍ مفترضةٍ غير مرئيةٍ، كي تتحوّل من منظماتٍ ثوريةٍ تحرريةٍ إلى بنىً بيروقراطيةٍ سلطويةٍ، كما حصل مع حركة فتح ومنظّمة التحرير.

تراجع الثقة بالنضال السلمي ثاني العوامل الداخلية، ومن أهمّ أسبابه: هزالة نتائج المقاومة السلمية فلسطينيًا، إذ لم تنجح المقاومة السلمية الفلسطينية في كسر شوكة الاحتلال، أو مستوطنيه في معظم الحالات، رغم نجاحها في تعطيل إجراءات الاحتلال الاستعمارية. من هنا نجد أنّ الانتفاضة الأولى، التي تعتبر نموذج المقاومة السلمية الأهمّ فلسطينيًا في العقود الأربعة الأخيرة، قد فشلت في تحقيق طموحات الفلسطينيين، بل أدت إلى توقيع اتّفاق أوسلو الذي حول معظم مناطق الضفّة الغربية إلى مناطق محتلة (+) أو محسّنة، من دون تكاليف الاحتلال الأمنية والمالية والسياسية والإعلامية. في السياق ذاته، يمكن متابعة ضعف مردودية المقاومة السلمية الفلسطينية في قضايا أخرى، مثل التوسّع الاستيطاني، والبؤر الاستيطانية الجديدة، وجدار الفصل العنصري، وصولاً إلى خطط تقسيم القدس مكانيًا وزمانيًا.

هنا قد يصرخ أحدهم مستهجنًا، وهل حققت المقاومة المسلحة شيئًا ملموسًا؟ الإجابة بكل بساطةٍ كلا، لكن هنا علينا الانتباه إلى تأكيد فصائل المقاومة، ومعظم مؤيديها، أهمّية النضال السلمي داخل فلسطين وخارجها، على اعتباره نضالًا مركزيًا في سياق مجمل النضال التحرري الفلسطيني، إلى جانب نصفه الآخر، النضال المسلّح، ما يعكس تطوراً ملحوظاً عن الخطاب السائد في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. كذلك يجب أن نلحظ تطور العمل المسلح نفسه، إذ يخضع النضال المسلّح إلى نقدٍ بناءٍ مستمرٍ يهدف إلى تلافي السلبيات والبناء على الإيجابيات، ساهم في تطور العمل المقاوم المسلّح، مثل انتقاله من خارج فلسطين إلى داخلها، والكف عن العمليات الاستشهادية، وصولاً إلى العمليات النوعية، متمثلةً في "طوفان الأقصى". كما غذت ممارسات الاحتلال اليومية وسلوكياته الإجرامية والدموية اليومية الميل الشعبي نحو الدفاع عن النفس أمام طوفان القتل الصهيوني اليومي.

من ذلك ننطلق إلى ثاني عوامل تراجع الثقة الشعبية بالمقاومة السلمية، متمثلةً في غياب النقد البناء، إذ غالباً ما يتعامل مؤيدو النضال السلمي مع مظاهره بمشاعر فياضةٍ خاليةٍ من أيّ انتقادٍ أو تحليلٍ يهدف إلى تطوير آليات المقاومة السلمية، لذا تحولت المقاومة السلمية الفلسطينية إلى روتينٍ مكررٍ خالٍ من الابتكار والتجديد والتطوير، ما سهل على الاحتلال، وأعوانه، حصارها وتطويقها والحد من تداعياتها، بل تحول قسمٌ كبيرٌ منها إلى نشاطٍ رتيبٍ نخبويٍ، يتجنب أيّ احتكاكٍ مع قوات الاحتلال، خوفًا من انزلاق الأمور نحو الصدام غير المتكافئ، بين جيشٍ مدججٍ بأقوى الأسلحة وأحدثها، ومدنيين عُزّلٍ لا يملكون سوى حجارة الشوارع لقذفها على قوات الاحتلال، لأن ذلك سوف يؤدي إلى قتلهم واعتقالهم بتهم ممارسة العنف والإرهاب بحقّ المحتل، وهي تهمٌ غير صحيحةٍ وفق القانون الدولي، ووفق عديد المؤسسات الدولية ومقرريها وتقاريرها، ومع ذلك يحاسب متهموها من الفلسطينيين العزل في كلّ دول العالم وفق قوانين الاحتلال اللاشرعية واللامنطقية واللاقانونية، بما يشمل المؤسسات الأممية والدولية (منها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا") والمنظمات غير الحكومية.

على من يطالب بالمقاومة السلمية معالجة أسباب تراجعها الحقيقية، بعيداً عن الخطاب التحريضي المقيت الباحث عن شماعةٍ لذلك

من ذلك كلّه؛ فقدَ النضال السلمي جوهره الثوري، ليتحول إلى برستيجٍ نضالي في حالاتٍ عديدةٍ، عبر وقفاتٍ دوريةٍ محدودة الوقت، لها ساعة بدءٍ محددةٌ كما ساعة انتهاءٍ، يعود بعدها المشاركون إلى حياتهم الروتينية، فلا مواجهاتٌ ولا اعتقالاتٌ ولا مطالب ملحةٌ تتطلب اعتصاماً مديداً، أو إغلاق شوارع ومحطاتٍ ومراكز اقتصادية، ولا تعطيلٌ لمظاهر الحياة الروتينية، ولا بحثٌ عن نقاط ضعف الاحتلال الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية، ولا بحثٌ في آليات التحريض والتعبئة، ولا بحثٌ عن انتصارات جزئيةٍ تشحن الطاقات الشعبية، وتستعيد ثقتها بالمقاومة السلمية. لا نجد أيّاً من ذلك في مئات المقالات والتحليلات والمنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تشهر سيوفها في وجه المقاومة العنيفة، والتي تحمل الأخيرة مسؤولية غياب المقاومة السلمية، أو شبه اختفائها، إذ باتت المقاومة المسلّحة عندهم شماعةً لتعليق أخطائهم وقصورهم، والحياة في وجود تلك الشمّاعة أفضل وأريح من البحث والتفكير الجدّي والعلمي، بعيداً عن تحميل الآخرين مسؤولياتٍ لا يتحملونها، كما في فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تمارس أسلوبها الذي تتقنه في الدفاع عن شعب فلسطين وأرضها. هنا لا بدّ من وضع مئة خطٍ تحت كلمة دفاع، لأن المقاومة تدافع عن حقوقنا فقط، فهي لا تهاجم ولا تعتدي على أحد، لأن الاحتلال هو مصدر الاعتداء الوحيد هنا.

في الختام؛ على من يطالب بالمقاومة السلمية معالجة أسباب تراجعها الحقيقية، بعيداً عن الخطاب التحريضي المقيت الباحث عن شماعةٍ لذلك، فالأسباب معروفةٌ في مجملها لكنها تحتاج إلى مَن يعمل على تجاوزها ويضع الخطط المناسبة لنهضة المقاومة السلمية، كما نجحت المقاومة العنيفة في كسر الطوق المفروض عليها في الآونة الأخيرة.