عن عنصرية مفترضة في تونس

11 مارس 2023
+ الخط -

لم تعرف الدولة التونسية ما بعد الاستقلال توتّرا مع محيطها القارّي مثل الذي تشهده حاليا، فقد تتالت مواقف الدول الأفريقية مندّدة بما يجري في تونس إزاء المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء، بل واستغلتها أنظمة أفريقية عسكرية لتسجيل مواقف داخلية، مثلما فعل رئيس المجلس العسكري الحاكم في غينيا، الكولونيل مامادي دومبويا، الذي حاول الظهور في صورة البطل الشعبي الذي يحمي أبناء وطنه. ولأن الأنظمة السلطوية تستفيد من أخطاء بعضها بعضا، وتحاول دائما تصدير أزماتها عبر إيجاد أعداء خارجيين، لم يكن غريبا أن تأتي المواقف مندّدة من أنظمة تشاد ومالي وغينيا وبوركينا فاسو بما يفترضون أنه يجري في تونس من عنصريةٍ وفرز على أساس الهوية العرقية من دون بحثٍ في أسباب ما جرى وطبيعة الوضع التونسي الذي أفرز حالة التوتر بين الدولة التونسية وشركائها في القارّة.

لم تكن لدى تونس سياسة محدّدة إزاء القارّة الأفريقية بقدر ما كانت تحافظ على علاقاتها مع الجميع ضمن منطق للسياسة الخارجية يقوم على تفادي المشكلات والتوترات، وتجنّب الأحلاف والتكتلات، وهو منهجٌ تعتمده الخارجية التونسية منذ استقلال البلاد. وبعد ثورة 2011، اتّخذت تونس خطوات متتالية لبناء منظومة حقوقية تتجانس مع القيم الكونية التي تحترم الحقوق والحريات، وكان أن صدر القانون عدد 50 سنة 2018 لتصبح تونس من دولٍ قليلةٍ تصدر قانونا يحظر التمييز على أساس عنصري، ويقرّ عقوباتٍ مشدّدة إزاء كل من يمارسه أو يبرّره بأي شكل. وفي الفترة نفسها، شهدت الهجرة غير النظامية من أفارقة جنوب الصحراء إلى تونس طفرةً غير مسبوقة، فهؤلاء الذين كانوا يتوجّهون إلى ليبيا أصبحوا يتجنبونها بسبب أوضاعها الأمنية، ووجدوا في تونس مقصدا آمنا بوصفها محطة أساسية قبل الانتقال إلى الضفة الأخرى للمتوسّط. وهذا لا ينفي وجود مهاجرين وجدوا مجالا للعمل في تونس، وهكذا أحدث التوافد الكثيف للأفارقة حالة من التوتر في بعض الأحيان مع المواطنين. ولا يمكن أن يُنكر، في هذا السياق، وجود نزعات عنصرية لدى الشعوب جميعا، وهي تتفاوت من حيث الظهور والتأثير. وفي الغالب، تتصاعد عند الأزمات وتخفت في حالات الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي. ولكن هذا لا يعني أبدا وجود توجّه عنصري عام لدى الشعب التونسي، والدليل أن البلاد لم تعرف حالات التمييز الحادّة التي نراها لدى شعوب أخرى، بما فيها دول ذات نظام دستوري وحقوقي راسخ، ولكنها عجزت عن تأمين المساواة بين المقيمين فيها.

تقتات الشعبوية السياسية دوما على الإثارة وتعبئة الناس على قضايا قد تكون جزئيةً أو حتى وهمية، وترفعها إلى مستوى المعركة المصيرية

ساهم الوضع السياسي في تونس الذي تغلب عليه الشعبوية وغياب العقلانية السياسية في تأجيج نيران الأزمة بين تونس والدول الأفريقية. وجاءت تصريحات المسؤولين في تونس عن "مؤامرة دولية" لتغيير التركيبة السكانية لتونس وفصلها عن انتمائها العربي والإسلامي لتشيع حالة من التوتر بغطاء رسمي، حيث تحرّكت الأجهزة الأمنية ضد المهاجرين وما صاحبها من موجة تهويل وتخويف من وجودهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بما أحدث حالة من الهلع لدى الوافدين، بمن فيهم من طلبة ورجال أعمال أفارقة، رغم أن إقامتهم قانونية في البلاد. وبعد ردود الفعل الواسعة التي أثارتها تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد، والبيانات الصادرة عن الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول أفريقية كثيرة، حاولت السلطات التونسية تعديل موقفها، والتنصّل من التصريحات السابقة، وتقديم صورة وردية لنمط تعاملها مع المهاجرين الأفارقة. ويكشف هذا التقلّب السريع في المواقف حالة الارتباك التي تعانيها السياسة الخارجية في تونس حاليا.

تقتات الشعبوية السياسية دوما على الإثارة وتعبئة الناس على قضايا قد تكون جزئيةً أو حتى وهمية، وترفعها إلى مستوى المعركة المصيرية، ففي البداية تمّت شيطنة المهاجرين الأفارقة وتصوير وجودهم علامةً على وجود مؤامرة كونية تستهدف البلاد بأكملها. وكان هذا الخطاب موجّها للاستهلاك الداخلي، ولم يكن أصحابه يتوقعون أن الأمر سيثير ردود فعل خارجية بهذه الحدّة. وهكذا تم بسرعة التراجع عن تلك التصريحات، وأصبح الحديث عن "مؤامرة داخلية" لتشويه تونس في الخارج، فالآلية التي تحكم الذهن الشعبوي تقوم على فكرة المؤامرة لتبرير الفشل، وإلقاء المسؤولية على الآخرين، سواء كانوا معارضين في الداخل أو دولا أخرى من الخارج. وفي الحالتين، يتم تجاهل المشكلات الجوهرية واصطناع مشكلات جانبية، لم يكن هناك مبرّر لإثارتها من البداية، ومنها مشكلة العنصرية المفترضة في تونس التي لم تكن سوى محاولة إلهاء عن المشكلات الاقتصادية والسياسية، والتمويه على الناس في ظل عجز السلطة الحالية عن تسيير البلاد.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.