عن خفوت الحراك المصري ضد الحرب على غزّة

04 ابريل 2024

مصريون في اعتصام من أجل غزّة أمام نقابة الصحافيين في القاهرة (26/3/2024/Getty)

+ الخط -

يشهد الأردن حراكاً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني، يتّصف بالاستمرارية، وتوسّع رقعة التظاهرات، وتزايد عدد المشاركين فيها، وتَحوّلَ الاحتجاج ضد العدوان، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، إلى نشاط يومي، خصوصاً في عمّان التي أعادت تظاهراتها طرح مطالبَ شملت إنهاء كل أشكال التطبيع، بما في ذلك التمثيل الدبلوماسي، ويحاصر المتظاهرون محيط مقرّ سفارة الاحتلال، ووجّه بعضهم نداءً إلى الشعب المصري كي يهبّ لنصرة غزّة، ما يشكّل جبهة إسناد عربية تتكامل مع حركة تضامن عالمي يشارك فيها ملايين الرافضين للحرب، مطالبين حكوماتهم باتّخاذ مواقفَ تساهم في وقف التوحّش الإسرائيلي، بعد أن عرّت الحرب الاحتلال، وهزمته أمام الرأي العام. يُغالط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيقول إنه يواجه مليار مسلم، إلا أن التضامن أوسع وأعم من الانتماء لدين، أو كما تقول دراسة لجيش الاحتلال، إن حركة حماس عمّمت سرديتها.

خلال التظاهرات، ينادي الأردنيون إخوانهم المصريين ليظهروا صوتاً مسموعاً ضد الحرب. النداء مُحمّلٌ بالعشم كما منطوق شعارهم، ومدفوعٌ بقناعاتٍ عن ارتباط المصريين بالقضية الفلسطينية، وموقفهم المعادي للاحتلال الذي يشنّ عدواناً هو الأطول والأكثر وحشية في تاريخ حروبه، مخلّفاً مأساة إنسانية تتكرّر مشاهدها بمجاز تستكمل حصاراً بالتجويع والقتل، وإشاعة الرعب، كما في حصار مستشفى الشفاء وتدميره أخيراً، وقتل مرضى، وغيرها من وقائع مشابهة تستدعي غضباً ليس ضمن حساباته أن تكون عربياً أو مسلماً. مع توافر العوامل الخارجية، والموضوعية في الوقت ذاته، الدافعة للاحتجاج، ومع تكرار نداءات لمصر، سواء في الأردن، أو في غيرها من دول عربية، ما زال الحراك المصري خافتاً، ولا يتناسب في طبيعته وعدد المشاركين فيه مع ما كان متوقّعاً أن يكون ردَّ فعلٍ محتملٍ على تبعات الحرب، ذلك لأنّ الحراك، في جانبٍ منه، مشروط بعوامل داخلية تتعلق بمكوّنات المجال العام، وليس مجرّد ردّة فعل على أحداث جارية وكوارث تستدعي الاحتجاج أو التضامن. وإذ أردنا المقارنة عربياً، يبدو الحراك المصري ضعيفاً قياساً بدول بينها المغرب والعراق، وحتى تونس، والتي تعرّضت فيها الثورة للإخفاق. لذا، ليس مقنعاً بطبيعة الحال الارتكان إلى هزيمة الثورة أو ممارسات النظام السلطوي الذي لا يتسامح مع وجود حراك مستقل، تبريراً لمحدودية الحراك. وهنا من الضروري النظر إلى الظروف الذاتية بما فيها رغبة الفاعلين في المجال العام، وقدرتهم على تنظيم أنفسهم، وبناء عمل جبهوي يفي بمتطلّبات الحراك، وأنّ تكون المؤسّسات قادرة على التنسيق فيما بينها، ووضع الخطط، وتكوين النواة الأساسية (نخبوية بطبيعة الحال) الداعية إلى حراكٍ مخطّط يمتلك خطاباً محلّ اتفاق على حدود دنيا، ويمكن الاستبصار بخبراتٍ وتجارب سابقة بشأن الحركات الاجتماعية، وبناء التحالفات التي شهدتها مصر سابقاً، فليس صحيحاً أنّ السلطوية هي الوجه الوحيد في تفسير خفوت الحراك، وقد يكون في هذا تبرير وتغطية على أسباب أخرى ليس لدى بعضهم الشجاعة لخوض نقاش فيها.

ما زال الحراك المصري خافتاً ولا يتناسب في طبيعته وعدد المشاركين فيه مع ما كان متوقّعاً أن يكون ردَّ فعلٍ محتملٍ على تبعات الحرب

وبالعودة إلى المقارنة لإيضاح دور الجبهات والأطر التنظيمية بوصفها أحد منطلقات الحراك، فحتى في ظلّ نُظمٍ تتفاوت فيها درجة السلطوية وأشكالها، وأيضاً مواقفها من خيار المقاومة، نجد أن مجمل الحراك العربي يتأسّس أولاً على جبهات تتكوّن من مؤسّسات سياسية ونقابية وفاعلين في المجتمع المدني. ثانياً، يتوفّر لها حدّ أدنى من التنظيم، وتعتمد على العمل الجماعي. ثالثاً، تطلق هذه التحالفات فعالياتها (سواء الاحتجاجية كما التظاهر أو غيرها من فعاليات تضامن) عبر الأطر الجبهوية، وتعمم دعوتها بين صفوفها، وليس عيباً في هذه الحالة، أن تكون بداية التحركات نخبوية ورمزية الطابع تتطوّر لاحقاً. الحراك الأردني كمثال (مع الأخذ في الاعتبار اتصال لم ينته مع فك الارتباط بين الضفّتين) يعتمد على تحالفات مكوّنة من هياكل سياسية ونقابية، تتفق على حد أدنى يمثّل القواسم المشتركة، وقبل "7 أكتوبر"، لعب تراكم النشاط ضد التطبيع دوراً مهماً، خاصة في ثلاث سنوات مضت، وساهم في وضع أساس قوي للحراك الجاري، وتلعب هيئتان دوراً سياسياً وتنظيمياً، فهناك الملتقى الوطني لدعم المقاومة الذي تأسس بشكل منهجي، واضعاً وثيقة سياسية في مارس/ آذار 2022، بالإضافة لإطار تنسيقي أقدم، تأسس منذ 2012، وهو ائتلاف الأحزاب القومية واليسارية، ولعب الائتلاف دوراً في الدعوة والتنظيم، غير أن وثيقة تأسيسه تضمّنت موقفاً واضحاً من التطبيع والصهيونية، ولا تمتلك مصر اليوم، إطاراً جبهوياً مشابهاً حتى مع وجود الحركة المدنية، إطاراً جبهوياً حزبياً، لكن الفارق في التوجهات والفاعلية كبير. أيضاً، لم يقتصر الحراك الأردني على التظاهر، فهناك مؤتمرات تعمم فيها مطالب وخطابات سياسية لها أهميتها إذ اقترنت بالعمل، لأن الخطاب والوثائق يؤسسان لوعي ومسار حركة تجتمع عليها أطراف التحالفات من أحزاب وقوى وشخصياتٍ عامة، وهذه التحالفات تمثّل نواة الحراك الذي أصبح بفعل التراكم والفاعلية جاذباً للشارع وممتداً ومتواصلاً وقوياً، وهو ما دفع قوى الثورة المضادة عربياً إلى أن تهاجمه وتحذّر منه بالاتهامات والعبارات المعروفة نفسها حول المؤامرات الخارجية، والأخطار المحتملة على الاستقرار، رغم أنّ الحراك واضح في توجّهاته وأهدافه في دعم صمود الشعب الفلسطيني، ومجمل مطالبه للنظام ترتبط بوقف التطبيع.

ليس صحيحاً أنّ السلطوية هي الوجه الوحيد في تفسير خفوت الحراك، وقد يكون في هذا تبرير وتغطية على أسباب أخرى ليس لدى بعضهم الشجاعة لخوض نقاش فيها

في المغرب، هناك ثلاثة تحالفات، الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، والجبهة المغربية لمناهضة التطبيع، واستطاعت الهيئات الثلاثة، أن تنظّم أزيد من 1500 مظاهرة، وتُحافظ على تواترها أسبوعياً في عشرات المدن، خصوصاً يوم الجمعة. وفي تونس أيضاً، وإن بدا الحراك أقل حجماً وعدداً، إلا أن وجود تحالفات سياسية نشطة يظلّ مهماً في تنسيق العمل والدعوة إلى فعاليات. لا تعني مقومات توفّر مؤسسات تدعو إلى فعاليات وتنتج أفكاراً ومواقف التغافل عن تأثيرات السلطوية محدداً يعوق الحراك، من خلال عاملين. الأول درجة التسامح مع حرية التعبير. والثاني، موقف النظم من القضية الفلسطينية وخيار المقاومة، لكنّ التسليم بعدم القدرة على تجاوز بعض التحدّيات التي تفرضها السلطوية، سيعني الاستسلام للوضع القائم، وأن يظلّ الحراك خافتاً، وستنتظر القوى السياسية فرصة أن يوظّف الحراك لمصلحة السلطة حين تشاء، ضمن حدود مقبولة، وعبر شخوصها بشكل أساسي، وحينها تصبح شخوص من الفاعلين في المجال العام ضيوفاً متلقين للدعوة، وهو ما جرى عملياً في مظاهرات "20 أكتوبر" التي دعا إليها النظام، ورغم ذلك، قبض على عشرات الشباب الذين دفعوا تكلفة كبيرة، هي بقاؤهم سجناء لوقت لا يعرف تقديراً قانونياً محدداً، ويضيف هؤلاء تصنيفاً جديداً: "سجناء التضامن مع غزة".

ورغم معوقات وجود حراك مصري، وأثار السلطوية ودورها، لا يمكن التسليم بأن سبب مشهد الخفوت طبيعة النظام، وعدم تسامحه مع التظاهرات، وحصار الميادين أمنياً وحسب، لأنه وباستثناء التظاهر كأداة، هناك محدودية في استخدام أدوات أخرى، نحو المؤتمرات والندوات والفعاليات الثقافية التي يمكن أن تكون ساحة للتضامن، وخلال ستة أشهر من الحرب كان استخدام هذه الأدوات محدوداً، إضافة إلى قلّة عدد المشاركين فيها. لذلك، يتصدّر التضامن الرمزي ذو الطابع الفردي عبر ساحات التواصل الاجتماعي المشهد، بجانب حملات المقاطعة المنتشرة بشكل كبير، وأيضاً حملات جمع التبرّعات (ربما الأكبر عربياً)، لكنّ السلطة اتبعت طرقاً لاختراقها وتوظيفها سياسياً ونزع طابعها الشعبي، ضمن عمليات تأميم المجال العام، مستخدمة على سبيل المثال لا الحصر، التحالف الوطني للمنظمات الأهلية. ويبقى مستقبل الحراك التضامني مع فلسطين، مشروطاً بعدد من العوامل، أهمها حالة الفاعلين في المجال العام، ومدى امتلاكهم مؤسسات وأشخاص وقدرات في بناء التحالفات، وقدرة على تكوين النواة الأساسية للحراك الذي يمكن له أن يجذب آخرين، عبر خطابٍ واع ومناسب قادر على الدعوة والحشد، وصياغة رؤية ومسار للحراك، بما في ذلك تكتيك مناسب يقوم على الاتفاق على حدّ أدنى من المفاهيم، واستثمار الإمكانيات المتاحة، وتوسيعها أيضاً، عبر خطاب يربط بين الوضع في غزّة ومصالح مصر دولة جوارٍ تتأثّر بتداعيات الحرب في صُعد عدّة، ويخصم بقاء صوت القوى الشعبية فيها خافتاً من رصيدها وصورتها أيضاً.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".