عن تصاعد الهجرة غير النظامية من تونس
رغم أن محاولات الهجرة خارج الإطار القانوني لم تتوقف منذ تسعينيات القرن الماضي، وإغلاق دول الاتحاد الأوروبي حدودها أمام محاولات اللجوء الاقتصادي من دول شرق المتوسط، إلا أن موجة الهجرة الحالية التي شهدتها البلاد التونسية تبدو في سياقٍ مختلف، وبملامح متغيرة من حيث نظام الهجرة من جهة، وطبيعة المهاجرين من حيث الانتماء الاجتماعي والتصنيف السكاني من جهة أخرى.
تتواصل موجات الهجرة منذ سنة 2021 وبشكل متصاعد، ويمكن أن نلاحظ جملة من الخصائص الجديدة لهذه المرحلة، أولها أنه خلافا للموجات السابقة، حيث كانت الهجرة تقتصر على الشباب العاطل والمهمّش فقد أصبحت تضم عائلات بأكملها، ونساءً وقصّرا بشكل غير مسبوق. وأصبح من المعتاد أن تبيع العائلات أملاكها لشراء قوارب وتنظيم رحلة عبور نهائي الى الضفة الأخرى للمتوسط. وحسب الإحصائيات التي أوردها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، شهدت السنة الماضية هجرة 500 عائلة تونسية وما يزيد على 1200 امرأة، وقد تصاعد هذا النوع من الهجرات العائلية منذ بداية سنة 2022 وبشكل غير مسبوق. وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في التحريض على هذا النمط من الهجرة، من حيث انتشار فيديوهات وصور لعمليات هجرة غير نظامية وخطابات تحثّ على الرحيل من البلاد، وهو ما أوجد حالة من التحفيز على المغادرة بشكل غير مسبوق.
مما تميّزت به ظاهرة الهجرة غير النظامية في موجتها الحالية تضاعف عدد المهاجرين الحاصلين على شهادات علمية
ومن خصائص الموجة الجديدة أن الهجرة لم تعد مقتصرةً على استعمال القوارب، للوصول إلى السواحل الإيطالية، وإنما ظهر أسلوبٌ آخر للسفر عبر تركيا، ومنها إلى صربيا، ليتم التنسيق مع شبكات المهرّبين والاتجار بالبشر، حيث يتولى هؤلاء إدخال المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبمقابل مادي يتم الاتفاق عليه، وتلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورا مهما في هذا السياق، سواء للتعريف بالمهرّبين وطرق الاتصال بهم، أو لبثّ فيديوهات تحمل رسائل طمأنة لأهالي المهاجرين، كما لا تخلو أحيانا من بثّ رسائل تحذيرية لمن ينوي الهجرة، سواء في طرق التعامل مع المهرّبين أو أمن الحدود في دول العبور.
ومما تميّزت به ظاهرة الهجرة غير النظامية في موجتها الحالية تضاعف عدد المهاجرين الحاصلين على شهادات علمية، وخرّيجي الجامعات والرياضيين الراغبين في الرحيل بأي شكل، حتى وإن تطلّب الأمر تعريض حياتهم للخطر، وهو ما يكشف عن حالة يأسٍ جماعي تسيطر على الجيل الجديد في تونس، وتدفعه إلى المغامرة غير مضمونة العواقب في سبيل تحقيق مستقبل واعد خارج البلاد.
ما يمكن ملاحظته أيضا في هذه الموجة الجديدة من الهجرة هو تضاعف عدد الأفارقة الوافدين من دول جنوب الصحراء إلى تونس باعتبارها محطة انتقالية قبل الرحيل إلى أوروبا، وهو ما ترتب عنه مشكلات اجتماعية وأمنية مختلفة، فهؤلاء الأفارقة ممن يبحثون عن سبل للهجرة يطول يبعضهم المقام في تونس، ما يضطرّهم الى البحث عن عمل، الأمر الذي يجعلهم عرضة للاستغلال أو الاحتيال. وأحيانا، تحصل مناوشات بينهم وبين القوى الأمنية او السكان المحليين.
لحل الأزمة لا بد من إيجاد مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي، يساعد على الاستقرار، ويكون دافعا للعائلات للبقاء
لم يعد هذا التصاعد لأعداد المهاجرين وتغيّر بنية الانتماء الاجتماعي لعدد كبير منهم (هجرة العائلات، هجرة القصّر، هجرة النساء، هجرة خرّيجي الجامعات) يجد تفسيرَه في مجرّد سعي هؤلاء إلى تحسين وضع اجتماعي بائس فحسب، وإنما تعود إلى قتامة الوضع والشعور بفقدان الأمل في ظل الضبابية التي تسيطر على الشأن العام، فالهزّات الاجتماعية وحالة عدم الاستقرار التي تعرفها البلاد، مثلت دافعا قويا لمزيد التعبئة والتحريض على الهجرات الجماعية ذات الطابع العائلي.
تردّي الوضع السياسي والاجتماعي في المرحلة الحالية، وفي ظل تراجع فرص انطلاق تنمية فعلية وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وما سيترتب عن الاستجابة لشروطه من ضغوط، وبالنظر إلى أزمة المواد الأساسية المدعمة، والتي أصبحت المعاناة الأولى للمواطن التونسي، فإن كل هذه الأسباب أوجدت بيئة مناسبة ومحفّزة على الهجرة.
مشكلة الهجرة غير النظامية تعبّر بالفعل عن مدى الأزمة التي تشهدها الدولة التونسية، فهذا البلد الذي يشكل نقطة عبور لمهاجرين من بلدان أخرى، ونقطة مغادرة لجزء من سكانه، أصبح بالفعل عاجزا عن ضبط حركة الهجرة التي تتم يوميا، وبشكل متصاعد، انطلاقا من سواحله البحرية الممتدة. ولحل الأزمة، لا يتعلق الأمر باللجوء إلى الأسلوب الأمني الفج، وما قد يترتب عنه من إصابات، وما يحدثه بالتأكيد من صراعات، وإنما يتعلق، أولا وأساسا، بإيجاد مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي، يساعد على الاستقرار، ويكون دافعا للعائلات للبقاء. المؤسف أن الوضع الحالي لا يبدو مشجّعا على التفاؤل، ولا ينطوي على مؤشّرات لحل الأزمة، بل يبدو على النقيض من ذلك، وهذا سبب آخر للقلق من المستقبل.