عن تحوّل محتمل بين معارضي المنفى المصريين

25 فبراير 2023
+ الخط -

بينما يعمل معارضون مصريون يقيمون في الخارج على تطوير تحالفاتهم القائمة، تترافق مطالب بتوسيع المجال العام مع عودة سياسيين إلى البلاد. قد تفرض هذه الثنائية تحدّياً لقدرة المعارضين على صياغة اختياراتهم، وخصوصاً مع احتمال ظهور تسوياتٍ فرديةٍ أو جماعية. وتُساعد مناقشة أداء المعارضين على الاقتراب من قدرتهم على قراءة التغيّرات الجديدة، من وجهتي الحالة البنيوية والمساهمات الفكرية، والانتقال إلى مرحلةٍ أخرى من التدافع والبناء السياسي.

في الوقت الراهن، تمرّ المعارضة بحالة تدهور القدرة على إعداد مشروع سياسي، وتحوّلها إلى الانشغال بالتدوين الفردي عبر وسائط مرئية ومكتوبة، وتوقف أنشطة كثيرة، وميلها الدائم إلى التفكّك. وبدا السلوك الفردي السمة المشتركة في مناسبة تنحّي الرئيس السابق حسني مبارك، حيث اقتصرت على تصريحات المعارضين في الخارج من غرف المكاتب وشاشات التواصل الاجتماعي، ما يشير إلى انهيار واضح في الفاعلية التنظيمية وانحسار السماحية في البلدان المضيفة.

على مدى العامين الماضيين، عملت المعارضة على إبقاء مجموعة "اتحاد القوى المصرية"، فبراير/ شباط 2021، عملاً مشتركاً بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب الغد، ثم إعادة تشكيل إطارها القيادي في 2023، مع التوسّع في تمثيل مجموعات لحزب الغد، بما لا يعكس حقيقة وجوده النسبي. وفي حالة المنفى، لا يُعدّ البُعد المالي، كما المكاسب الشخصية، كافياً لتفسير محاولة تمديد المعارضة رغم التدهور الواضح منذ 2014، وخصوصاً مع انعكاس استمرار الأزمة على قطاعاتٍ واسعةٍ من الإسلاميين، فيما المجموعات الأخرى هي الأقلّ تأثراً لمحدودية وجودها في مصر. وبتحليل الكيانات المُوقعة على بيان "مطالب الشعب المصري"، تُمكن ملاحظة مدى صِغر حكمها وغموض اتجاهات تأثيرها في المستقبل.

منذ بداية تشكيلات المنفى، تصدّرت جماعة الإخوان شبكات المعارضة، غير أنها في السنوات اللاحقة تراجعت عن مواقع القيادة لحساب وافدين من أحزاب أخرى

وفي الفترة نفسها، تصاعدت الاختلافات الداخلية في جماعة الإخوان حول الموقف من السلطة، فبينما يتمسّك فريق "إخوان أون لاين" بمقولات إسقاط الانقلاب، يتكلم فصيلان عن الانسحاب من المشاركة السياسية وعدم التَرشُح لرئاسة الدولة دعماً للديمقراطية، حيث يؤدّي الصراع على السلطة لتقسيم المجتمع. تفتقر هذه المقترحات إلى التماسك والنضج، حيث لم تقدّم سياقاً نظرياً يبرّر الاستمرار في العمل السياسي حتى تغيير النظام الحالي، فضلاً عن غموض الالتزام بالأفكار الإصلاحية أو مراجعة التطلعات الثورية، فعبر مشاركة في "الحوار الشعبي"، تكلم واحد من فصائلها (إخوان سايت https://ikhwan.site/p-222515) عن ارتباط نجاح مرحلة انتقالية بإجراء مراجعاتٍ لخفض الانتماء الأيديولوجي والعمل الجماعي. هي أفكارٌ يختمر فيها سلوك الإطاحة، وليس الابتعاد عن السياسة.

وضمن هذا السياق، ساهمت انقسامات حركة الإخوان المسلمين في سيولة المعارضة، حيث بدت المجموعات المنقسمة أكثر انشغالاً بالتمثيل خارج الجماعة، وليس بالبحث عن تطوير أهداف المعارضة. ويوضح الخلاف على وراثة موقع إبراهيم منير المُشكل الأساسي في نقص المبادرة وهيمنة ثقافة الخضوع للنسق التنظيمي. ويمكن تفسير بقاء الانقسامات بانقطاع الآفاق الفكرية والسياسية للجماعة، حيث صارت في حالة عجزٍ عن التَحرّك نحو تسويات، حتى لو كانت محدودة. وهنا، تعكس مشاركة قسمي الجماعة في كيانٍ تحت رئاسة حزب الغد نوعاً من تفضيل القبول بمواقع ثانوية على التلاقي على تسويةٍ للمشكلات الداخلية والقابلية للانقياد.

ويمكن النظر إلى الركود التنظيمي لمعارضة المنفى وتحوّلاتها العكسية مؤشّراً على سريان التحلل السائد في السنوات الأخيرة. ومنذ بداية تشكيلات المنفى، تصدّرت جماعة "الإخوان" شبكات المعارضة، غير أنها في السنوات اللاحقة تراجعت عن مواقع القيادة لحساب وافدين من أحزاب أخرى. على أية حال، شهدت شبكات المنفى تجارب من البناء والهدم، فقد ظهر اتحاد القوى المصرية على أنقاض كياناتٍ سابقة، ولم تخرُج تركيبة المؤسّسين عن تكرار عضوية المعارضين التقليديين في تحالف دعم الشرعية، الجبهة الوطنية المصرية الأولى، والتي توقفت بعد إصدار بيانها الأول، ودخلت في صراع مع مجموعة المجلس الثوري، ثم محاولة تأسيسها مرة أخرى. في تأسيس اتحاد القوى الوطنية، كانت هناك إشاراتٌ كثيرةٌ إلى تنوع المشاركين رغم تجنّب ذكر كل أسماء المشاركين لاعتباراتٍ أُشير إليها بأنها مفهومة (عدم الرغبة في ظهورهم علانيةً)، واكتُفي بالإعلان عن 70 عضواً من الهيئة العليا فقط، المقرّر أن تكون 100 عضو. وعلى الرغم من الضعف البنيوي ورغبة معارضين بإخفاء أسمائهم، بدا انعقاد "الحوار الشعبي" حلاً بديلاً لإخفاق بعض مشاركيه في الانضواء تحت الحوار الوطني، وتعويضاً عن خفوت كيانات المعارضة.

في ظل محدودية خلافاته مع السلطة، يعمل تحرّك شبكات "التيار المدني"، بوصفه مجموعة سياسية، على فتح طريق الحوار أمام أشباهه في معارضة المنفى

خلال هذه الفترة، لم تستقرّ هذه الجبهة على قاعدة مشتركة، سوى التلاقي على التمثيل المتساوي بغض النظر عن حجم عضوية المشاركين في التحالف. لم يكن ثَمَّة تأثير إيجابي لهذا النمط، بل على العكس، جعلها رهينة لمشاورات تجرى داخل الحركات الكبيرة. على مدى فترة المنفى، لم يشكل عدم تقدّم حركة الإخوان المسلمين إلى قيادة تحالف ميزةً بقدر كونه عيباً، فمن جهة، بقيت قرارات أي تحالفٍ مُعلقةُ على المشاورات التي تجرى داخل الجماعة، بحيث ساهمت في تخدير أكثر الأنشطة، بحيث تكوّنت حالة ارتهانٍ متبادلٍ بين مشاركي التحالفات. ومن جهة أخرى، يمكن النظر إلى تجنّب الجماعة تقديم رئيس لاتحاد القوى انعكاساً لصورتها السلبية والقلق من وجودها في صدر المشهد السياسي. ويمكن تصنيف مشاركة الإخوان في "اتحاد القوى..." تحت صورة رئيس حزب الغد رغبةً في التستّر خلف كيان آخر. يثير هذا الوضع جدلا كثيرا بشأن قبول مكونات حركة الإخوان الاستظهار بالتحالفات الصغيرة والهشّة، وتخليها عن القيام بدور مستقل أو قيادة المعارضة.

وتشير هذه السياقات إلى تواضع مساهمة جماعات المنفى في تقديم نموذج إصلاحي أو ثوري، وظلت تواجه حالات تفكّك مستمرّة سوف تؤدي إلى عودة العلاقات التقليدية فيما بينها والمعارضة على أساس تصنيف أيديولوجي. وعادة ما تتسم الشبكات الهجينة، كما في شبكات المنفى، وجمعها ما بين تنظيمات وأفراد، بضعف الأداء والقابلية للتفكّك وتغيير المواقف السياسية على نحو مفاجئ، فقد تكونت معارضة المنفى لعاملي الوجود التلقائي في الخارج وخصومة جماعات الإسلاميين وأحزابهم التقليدية مع الدولة. ولذلك، لم تنضج دواعي وجود مجموعة حزب الغد ضمن حركات المنفى، في ظل عدم تبنّيه موقفاً جذرياً ضد الدولة، واندماجه في جبهة الإنقاذ عند تأسيسها، بالإضافة إلى سلامة وضعه القانوني، وهو وضعٌ غير متماثلٍ مع مرور الإسلاميين بأزمة ممتدّة وتصنيفهم منظمات إرهابية.

وقد ترافقت هذه التطورات مع ظهور بيان "مطالب الشعب المصري" في 25 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، ليمثل محاولة أخرى لصياغة أولويات بعض معارضي المنفى. وكغيرها من مسوّدات التحالفات، أثارت المُشكل التمثيلي للشعب، وخصوصاً مع توقيعه من مجموعات محدودة العضوية، ما يقلّل من أهمية الجدل بشأن المحتوى السياسي، سواءٌ في ما يتعلق بطلب تنحّي رئيس الدولة سلمياً، أو طرح ملامح الأفكار السياسية والاقتصادية لتخفيف أعباء الحياة. ويمكن القول إن وضع مطلب التنحّي الطوعي في صدر المطالب يعكس جانباً من ضعف قراءة تعقيدات تفوق قدرات المعارضين. فهي بمجملها تعيش حالة من الهامش، سواء على مستوى تمثيلها منظماتها الأصلية في داخل البلاد أو من جانب فرصة التأثير الإيجابي في السياسات العامة.

تتبلور المؤشّرات الفكرية والتنظيمية على تشتّت معارضة المنفى، وتزايد فرصة انقسامها على الحوار مع السلطة

توفّر هذه السياقات بيئة خصبة لتوطيد استثناء الإخوان/ الإسلاميين من القبول السياسي والاستمرار مُشكلَةً أمنية، فيما تتسم المجموعات/ الأحزاب الصغيرة بمرونة تغيير مواقفها من دون شروط موضوعية، فهي تعمل خاليةً من الصدام الأيديولوجي مع الدولة الوطنية، فيما لم تستطع جماعة "الإخوان" تطوير سرديتها السياسية للدولة واقتراحاتها للخروج من الأزمة المديدة. وراهناً، تعاني الجماعة من أزمتين: اتساع النزاع على ملء الفراغ القيادي، وتزايد الخلاف بشأن التخلي عن المشاركة السياسية. تُساهم هذه الصورة في ترسيخ انحسار قدرة الجماعة على التكيف مع فكرة التصالحية، أو التسوية بشكل يُدعِّم قراءة اقتراحات عدم المشاركة في الانتخابات نوعاً من المزايدة او محاولات تفكير أولية يجرى نقاشها في بيئة متناقضة.

وبينما تتبلور المؤشّرات الفكرية والتنظيمية على تشتّت معارضة المنفى، وتزايد فرصة انقسامها على الحوار مع السلطة، قد يشجّع اتساع المناقشات بشأن انفتاح سياسي أمام تسوياتٍ سياسية لشخصياتٍ مُعارضة والإفراج عن المحبوسين احتياطياً، وتوسيع العفو العام، لخفض التوتر ومعالجة المشكلات الاقتصادية. وبجانب عودة بعض المعارضين من الخارج، تتقدّم أحزاب "التيار المدني" نحو تطبيع وضعها السياسي داخل الدولة، عبر المشاركة جماعياً في الحوار الوطني.

وفي ظل محدودية خلافاته مع السلطة، يعمل تحرّك شبكات "التيار المدني"، بوصفه مجموعة سياسية، على فتح طريق الحوار أمام أشباهه في معارضة المنفى. تبدو هذه الحالة تقليدية في السياسة المصرية، عندما كانت أحزاب اليمين واليسار أكثر قدرةً على فهم التغير السياسي من الإسلاميين وحساباتهم العقائدية، وهو ما يُمثل بيئةً مناسبةً لتباعد معارضة المنفى وتفكّكها على أساس المرجعية السياسية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .