جدل القبلية والمركزية في مصر
ترافق الإعلان عن نشأة اتحاد القبائل العربية في مصر مع قلقٍ واسعٍ بشأن تأثيره في مستقبل المركزية، التي تكوّنت، تاريخياً، نتيجة مساهمة الجغرافيا والتجانس السكّاني في توسيع قدرات الدولة في تنظيم العلاقة بين السكّان أو مع السلطة، فقد انصبّ التناول على أنّ تجزيء المُكوّن السكّاني سوف يعمل على إنماء ثقافات فرعية، دون وطنية، تؤدّى إلى الإخلال بالتماسك الاجتماعي والسياسي، وقد اتسعت المخاوف مع نشر بيانات تعبّر عن وجود اتحادات قَبَلية تحمل في طيّاتها نوعاً من النزاع على التمثيل الاجتماعي. وفي ضوء تزامن الإعلان عن مشروعٍ للخطاب الإسلامي عبر مركز تكوين، تكمن أهمية مناقشة تفاعلات القَبَيلة، والدين والدولة، وذلك باعتبار التأثير المتبادل للسياقات في التماسك السياسي والتجانس المجتمعي.
مُحرّكات اجتماعية وثقافية
خلال الأيام الماضية، أثار ظهور ثلاثة مُكوناتٍ المناقشاتِ عن اتصال الدور الاجتماعي، السياسي والثقافي، وانقطاعه، من ناحية قدرتها على المساهمة في مناخِ التقارب أو الانقسام، اتّجه كلٌ منها، بشكل أولي، إلى تبرير وجوده ضمن النطاق العام. وبنى اتحاد القبائل العربية، في أول مايو/ أيار 2024، مشروعه على أساس الشمول الوطني، ليمثّل امتداداً للاتحادات المحلّية، فهو يربط أطراف الدولة بمركزها، من خلال ضمّ مجموعة من مجالس القبائل القائمة في مرسى مطروح، وسيناء، والوادي.
يبدو الهدف واضحاً في وقف محاولات شدّ جماعات الحدود إلى خارج نطاق الدولة، أساساً لمقاومة التحدّيات الراهنة على مدار الحدود السياسية. وبهذا المعنى، يكون اتحاد القبائل تكويناً أهلياً لسدّ الثغرات أمام محاولات الاختراق الخارجي. من هذه الناحية، تعمل السياسات العامة على إعادة توزيع السكّان بين سيناء، ومحور السويس والوادي، وتطوير العمران على الساحل الشمالي. فحسب خرائط المشروعات، فإنّ سياسات تكوين ديناميات اجتماعية عامل مساعد لملء الفراغ في المناطق الجديدة. وفي سياق هذه الأحداث، أصدر مجلس القبائل العربية والمصرية، ومجموعة أخرى من مشايخ القبائل العربية في الصعيد والغرب، بيانات في 10 مايو/ أيار الجاري، تضمّنت نقطة مركزية، تتعلّق بطبيعة تمثيل القبائل على أساس السلالة الاجتماعية، وعلاقات القرابة على مستوى الدولة وخارجها، وتأكيد استقلالها عن اتحاد القبائل العربية، والاعتذار عن عدم المشاركة في أنشطته. وتشير نشأة مجلس القبائل، واحدة من أمانات أحد الأحزاب، إلى مدى التداخل بين الاجتماعي والسياسي. وبغضّ النظر عن صِحّة المصادر، يعكس محتواها رغبةً كامنة في إثارة الخلافات المجتمعية بشأن تاريخية العصبية، التي لا تراعي الامتزاج بين المجموعات السكانية.
اتسعت المخاوف مع نشر بيانات تعبّر عن وجود اتحادات قَبَلية تحمل في طيّاتها نوعاً من النزاع على التمثيل الاجتماعي
على المستوى الثقافي، بدا الإعلان عن مركز تكوين تطويراً لأشكال مُراجعة العقيدة الإسلامية، وانتقالها من التناول الفردي إلى العمليات المؤسّسية المُنظّمة. ويعمل المشروع الجديد على تجميع الفِرَق والمجموعات المُنشغلة بتضعيف السنّة النبوية خطوة لإخراجها من المصادر الدينية. وبغضّ النظر عن التأهيل المنهجي للقائمين على المشروع في الفروع العلمية، يمثل هذا التجميع منصّة انطلاق لإثارة الخلافات، من دون البحث عن حلول، فقد ارتكزت مساهماتهم السابقة على أنّ التشكيك في النص مبرّر لإزالته واستبعاده.
بعد مرور عقد على مواجهة مصر مشكلة سيولة السيطرة على التخوم الحدودية، لم تكن مشكلات الهجرة/ اللجوء الوحيدة في هذا الجانب، ولكن مشكلات نقل السلاح ومحاكاة العنف المنتشر في الإقليم مثّلت عناصر تهديد مستمرة. وشكّلت قدرة "ولاية سيناء" على التنقل ما بين ليبيا وسيناء، وفي جانب إعلان تبعيتها لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تحدّياً لبسط السيطرة على الحدود. ولذلك، كانت العمليات المشتركة على الحدود الليبية، وإغراق الأنفاق، وعملية سيناء (2018)، ضمن سياسات تمديد سلطة الدولة حتّى الأطراف، ومكافحة انتقال المسلّحين عبر الحدود. وشكّل ظهور اتحاد قبائل سيناء إطاراً لسدّ الثغرات أمام دخول المسلّحين الغرباء والأجانب إلى مناطق القبائل، ليكون أساس البنى المجتمعية الرديفة للدولة، لتضطلع بأعباء الترابط بين الجماعات الحدودية والمركز السكاني.
مؤتمرات الهامش
قبل ظهور اتحادات القبائل، جرت مناقشات بشأن المنظور السياسي لعلاقة الجماعات الحدودية مع الدولة، منها انعقاد مؤتمرات لمناقشة فروق المواطنة الاجتماعية، والحقوق الثقافية، من منظور نقد السلطوية، تفاوت توزيع الثروة واختلاف الانتماء الاجتماعي، وتقديمها ثقافة موازية. وفي ربيع 2009، أشار إبراهيم نصر الدين، رحمه الله، إلى الإعلان عن مؤتمر لدراسة سكّان التخوم في مرسى مطروح، وبينما بدا عليه الانزعاج، أعطاني قصاصة صحيفة لقراءة عنوان المؤتمر، ودار بيننا حديث عن مثل هذه البرامج، وسعيها لتكوين وعي مختلف، بالانتماء إلى جماعات سكّانية خارج الدولة.
يظهر اتساع الرفض العلمي والاجتماعي لمبادرة "تكوين" التدافع لدعم القيم المشتركة ضدّ مشاريع هندسة الاغتراب أو إثارة الخلافات الدينية والثقافية
بشكل عام، يعكس تركيز مثل هذه المؤتمرات على سكّان التخوم رغبةً تفكيكيةً لتنمية خصائص الخلاف والتفاوت مع الكتلة الأساسية للسكّان، فلم تُميز المؤتمرات في مدينة مطروح، في العقد الأول من الألفية الثانية، بين تعريفي الجماعة القرابية والإثنية، وتعاملت معهما مترادفين، لتخرج بمعالجات تقوم على الحكم الذاتي، والحقوق الثقافية، ضمن تصوّراتها. وقدّمت مشابهات بين الحالة النوبية والمجموعات الأخرى في سيناء، وحلايب وشلاتين، لتصنّف المطالب تحت مراجعة الرغبة في الاندماج. فقد سعت سلسلة المؤتمرات، لتكوين وعي مختلف بين أقاليم الدولة، لجذب قبائل الحدود إلى خارج الدولة، بغرض فتح دوائر انتماء أخرى لإضعاف التكامل الوطني. يصعًُب الاستدلال بمرحلة انتشار الجماعات المسلّحة في سيناء، مؤشّراً على خلخلة التماسك القبلي، سمح باستغلال فجوة التنمية، وضعف الترابط الاقتصادي مع نطاق وادي النيل.
ويمثّل الإعلان عن "تكوين" محاولةً لتمديد فِعل مؤتمرات الهامش الاجتماعي من زاوية هزّ قيمة الدين ثقافةً مشتركةً في نفوس المجتمع، بحيث يمكن تصنيفه ضمن سياسات تعميق الخلاف والتحريض على الفوضى الفكرية، وهي الأكثر التصاقاً بمشاريع التصنيف والتقسيم الغربية، لتكشف عن مقارنة لطيفة. فبينما تعمل أفكار برنارد لويس على إظهار الوعي بالانقسامات العِرقية والفروق الدينية، تقوم هوية الاتحاد على الترابط بين المركز والأطراف، وبطريقة تسمح بظهور أشكال أخرى على الأرضية الاجتماعية، من دون التطرّق إلى المسألة الدينية. ولذلك، تكشف تعليقاتٌ كثيرة عن القابلية للاستلاب الثقافي، وتأويل كلّ التصرفات تحت الخضوع للهيمنة من دون معالجة نقدية.
اختلاف خبرة الاندماج الوطني
ومع غياب تعريفٍ للقبيلة العربية، قد لا يشكّل الاتحاد الصيغة المثلى للتعامل مع قضايا المجتمعات الحدودية، لكنّه يوفر إطاراً لفهم تطلعاتها وربطها بالمركز المجتمعي، من خلال توفير أطر تواصل للتقريب الاجتماعي والدمج السياسي. أثارت هذه الجزئية القلق من تقاسم قوّة الدولة، وتعدّد أشكال السلاح الشرعي، ووصوله لمؤسّسات غير نظامية يمكنها، لاحقاً، تغيير طبيعة الدولة المركزية، عبر استحواذ منظّمات مدنية على شرعية الدفاع المسلّح، يتحول إمّا لمجموعات مصالح أو جماعات مُسلّحة، تؤدّي إلى نضج حالة الحرب الأهلية.
تمدّنا الحالة المصرية بسياقات المركزية، فمع التحوّلات الاجتماعية والهجرات، لا يقوم مفهوم القبيلة على الوعي التقليدي في المجتمعات القَبَلية. فعلى مدى القرون المتأخرة، حدث اختلاط بين السكّان، بحيث لا توجد قبيلة تقوم على عنصر واحد أو تنحدر من أصل واحد. وهنا، تشير التجربة إلى تمصير السكّان على أساس الإقامة والزواج، وهذا لا يقتصر على مجموعات العشائر، بل يمتدّ إلى المصاهرة بين أسر مسلمة ومسيحية، ليبدو الوعي بالفروق موروثاً اجتماعياً، بقدر ارتباطه بعملية التحديث وحرّية الاندماج في المدن، وعلى طول نهر النيل، من دون تمييز على أساس الأصل الاجتماعي أو الديني، لتحدث حالة اختلاط سكّاني غير مسبوقة في الشرق الأوسط، لتمثّل الروابط (غير القَبَلية) العمّالية والصناعية، واتحادات التجارة، واجهات لنفوذ الشبكات السياسية والاجتماعية، وعلاقاتها المصلحية داخل النظام السياسي.
يمكن النظر إلى تجربة التعاون مع الجيش في مكافحة الإرهاب بسيناء مؤشّراً على دور تقليدي للمنظمات الأهلية في الدفاع ضدّ المخاطر الخارجية
يُقدم هذا النموذج خبرة مغايرة عن دول الشرق الأوسط. وهنا، لا يقدّم الاحتجاج بحالة السودان إجابة على القلق من مزاحمة سلطة الدولة. فقد ظلّت إشكالية الدولة عاملاً مهماً في تفسير أزمات التكامل الوطني في السودان وليبيا. وتكشف مقاربة الحالات في دول الجوار والإقليم عن نضج الوعي الإثني في مقابل تراجع الدولة. فمنذ الاستقلال، يُعاني السودان من مشكلة التناسق القَبَلي والخلافات الإثنية، وبمرور الحكومات، تبلورت ظواهر التفاوت والتهميش بشكل أدّى إلى الهشاشة السياسية. وتمثّل الحروب الأهلية واحدة من مظاهر تآكل الدولة، وعدم قدرتها على تنمية القواسم المشتركة بين السكان. ويمكن النظر إلى تاريخ السودان سلسلةً من حروب العصابات، حالت دون الوصول إلى التكامل الوطني، اتسعت معه التنظيمات المسلّحة في كلّ أرجاء الدولة، ويمثل الجيش الشعبي لتحرير السودان وقوات الدعم السريع ذروة الصراع الاجتماعي، ليس لاستناده إلى قاعدة إثنية، ولكن لغموض مشروع الدولة، ومحدودية خبرتها في التنظيمات الإدارية.
مرّت ليبيا بتجربة قريبة من الحالة السودانية، فلم تبلور القبائل العربية مفهوماً لوحدة الدولة، وظلّت تتبنّى مفاهيم التقسيم الموروث عن الاستعمار الإيطالي، مما أفسح الطريق لظهور مشكلتين؛ قابلية تحوّل التقسيم الإداري للأقاليم إلى تصنيف سياسي، وخصوصاً مع صعود الجدل حول موقع المكونات الثقافية (الأمازيغ والتبو والطوارق) في النظام الدستوري. تسبّب تنوع النزاع في حيرة التفكير السياسي إزاء تعاقب المشكلات الهيكلية في الحكم الانتقالي، وضعف السيطرة على التخوم الحدودية.
التشابك السياسي الاجتماعي
ووفق تركيبة الوضع السياسي، تبدو صعوبة الفصل ما بين المجتمعي والسياسي، فهذه النوعية من التركيبات الاجتماعية، تقع في منطقة وسط ما بين المجتمع المدني والأحزاب السياسية. فحسب معضلة أمن الحدود، تبدو عملية الفصل صعبة إلى حدّ ما. هنا، تكون الأولوية لتنسيق العلاقة ما بين دوائر النفوذ بما يحفظ قدرة السلطة على إنفاذ القانون وحرية تقرير شرعية السلاح، ليكون ضمن مهام تحييد عدوى مشكلات الأمن في دول الجوار، ومنع عبورها، سواء بسبب الامتداد القرابي أو ضغوط الأزمات الخارجية. وبينما تشكّل مجلس القبائل فرعاً لحزب سياسي، قدّم اتحاد القبائل نفسه ضمن سياق تاريخي، يتلاقى تركيز البيان على الدور التاريخي للقبائل، جزئياً، مع مساهمة المجتمع، في وقت الأزمات، في ملء الفراغ وكبح التهديد الخارجي، وهو ما يمثّل حالات استثنائية في وقت الحروب، حيث عملت القبائل على توطيد التجانس والوعي الجمعي، وتمثّل مرحلة ما بعد عدوان 1967، وخروج المجتمع إلى الدفاع الذاتي (اللجان الشعبية) في يناير/ كانون الثاني 2011، حالات كاشفة عن الرغبة في التضامن على أساس القواسم المشتركة بين القبائل العربية.
لا يمثل التداخل بين السياسي والاجتماعي إشكالاً في حدّ ذاته، فغالبية المنظّمات المدنية، لم تُنضِج ظروفها المؤسّسية
في مثل هذه الظروف، لا يمثل التداخل بين السياسي والاجتماعي إشكالاً في حدّ ذاته، فغالبية المنظّمات المدنية، لم تُنضِج ظروفها المؤسّسية. ولذلك، يكون بناء العلاقات على تجاور دور الدولة والمجتمع مُقدمة للتساند السياسي. ويمكن النظر إلى تجربة التعاون مع الجيش في مكافحة الإرهاب بسيناء مؤشّراً على دور تقليدي للمنظمات الأهلية في الدفاع ضدّ المخاطر الخارجية. يتّسق هذا المدخل مع خبرة الأحزاب والجمعيات الأهلية في غموض الفصل الوظيفي، فتقديم الخدمات السلعية والتعبير عن الرأي سمة ملازمة للمناسبات السياسية، سواء أثناء الانتخابات أو متابعة التداعيات الآتية من دول الجوار. وهنا، تُشجع الظروف على زيادة احتمالية تداخل الدور لتشابك المشكلات والقضايا.
وعلى أيّ حال، يمكن قراءة ظهور المناقشات الشبكية بين الأشكال الثلاثة، ضمن محاولات التعافي من الضغوط الداخلية والتهديد الخارجي. فبينما تُصنّف الاتحادات القبلية ضمن استجابة الدولة للتحديات الخارجية عبر استدعاء المكونات المجتمعية تحت المظلّة الرسمية، يظهِر اتساع الرفض العلمي والاجتماعي لمبادرة "تكوين" التدافع لدعم القيم المشتركة ضدّ مشاريع هندسة الاغتراب أو إثارة الخلافات الدينية والثقافية. ولكن، رغم ميزات التجانس الاجتماعي، تظهر الحاجة إلى سياسات ضامنة للتوازن ما بين الوعي بالانتماءات الفرعية والقيم المشتركة وتأهيل المناخ للانسجام حول المصالح والتهديد على أساس المشاركة وقوة الدولة المركزية.