عن انتقاء الكلمات في شأن فلسطين

11 أكتوبر 2023
+ الخط -

مثيرٌ للاشمئزاز أن تصادف إدراجاً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، بينما تتصفّحه لمتابعة ردود فعل الناس على الأحداث الفلسطينية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، يحاول صاحبه الاحتفاء بدخول المقاومة الفلسطينية الأراضي المحتلة عام 1948، وأسر جنود ومستوطنين للاحتلال والعودة بهم إلى غزّة، بالقول إن المشاهد الفلسطينية "مثيرة" أكثر من فلانة من الممثلات الإباحيات!

ما هو فائضٌ عن القول إن مشهد المقاومة الفلسطينية وإنجازاتها غير المسبوقة عبر كل الحروب العربية ضد "إسرائيل"، يلزمها كثير من التوقير عند الحديث عنها أو وصفها أو الاحتفاء بها، لأنها تُنجز شيئاً مما حلمت به الأجيال العربية منذ النكبة الأولى، ولم تحقّقه كل الحروب والجيوش قبل اليوم، ولأنها تمثل نقلة نوعية في المعركة التي تخوضها الأجيال العربية بوجدانها منذ 76 عاماً، قبل أن تخوضها بأدواتها وأجسادها، ما يعني أنها ستترُك أثراً بالغاً في معنويات الأجيال الطالعة وثقتها بقدراتها وإيمانها بانتصار قضيتها، أياً ما ستؤول إليه الأحداث الراهنة.

يشار بالقول نفسه لمن تعامل مع الحدث، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من زاوية السخرية والدعابة، فالحدث ليس عابراً ولا مكرّراً ولا بسيطاً، إنه انثناءة في تاريخ القضية الفلسطينية يلزمه كثير من التوقير والجدّية، لأنهما السبيل بعد اليوم لإعادة البناء النفسي الذي تهشّم عبر عقود من الهزيمة العربية في الحروب والمفاوضات وعلاقات التطبيع.

أما الذين يلتزمون الصمت من نشطاء مواقع التواصل وكُتّابها، فهم مُقدمون على الذين يواصلون الكتابة في شؤون الحياة اليومية، وفي مجالات اهتماماتهم المتنوّعة، وكأن شيئاً لا يحدُث على أبواب التاريخ. كأنما يقولون لنا إن فلسطين لا تعنيهم، وإن نصرة المظلوم في وجه الظالم ليست قضيتهم، وإن مواجهة آخر احتلالٍ على وجه الأرض ليست مسألة تشغلهم. أولئك الذين يلتزمون الصمت حفاظاً على مصالحهم مع أصدقاء الاحتلال، أو لمرضٍ في أنفسهم، أو لأن ما جرى عقد ألسنتهم، أقلّ ضرراً من الذين يواصلون الثرثرة بعيداً عن المشهد الفلسطيني المقاوم للاحتلال، فالذين يصمتون يفسحون المجال لمن يتحدّثون، كي يملأوا مواقع التواصل شرحاً للموقف الشعبي العربي من مقاومة المحتل وحلفائه، أما الذين يواصلون الكلام في شؤون الفن والسياحة والفتوى فيريدون القول إن "فلسطين لا تعنينا كلنا".

الحدث الفلسطيني اليوم ليس عابراً ولا مكرّراً ولا بسيطاً، إنه انثناءة في تاريخ القضية الفلسطينية يلزمه كثير من التوقير والجدّية

إلى جانب هذا كله على الجانب الشعبي، ثمّة ما يثير الضيق أكثر على الجانب الحكومي، حين تقوله بيانات رسمية عربية، ما يفيد مساواة الضحية بالجلاد، فتدعو إلى "ضبط النفس من الجانبين" و"وقف التصعيد من الطرفين"، والأنكى "حماية المدنيين على الجهتين"، وكأن المستوطنين الذين أقاموا بيوتاً على أراضي غيرهم يمكن عدّهم "مدنيين" حقاً، وليسوا من جنس المحتلين المحاربين، حتى لو لبسوا ملابس المدنيين.

لو تحدّثنا عن بيانات ما يسمّى "المجتمع الدولي" لوجدنا فيها كثيراً من "البذاءة السياسية"، من قبيل أن ما فعله الفلسطينيون لا داعي له، وبلا سبب، وأنهم هاجموا "مدنيين" كانوا يحتفلون بعيد العُرش اليهودي، وأن لإسرائيل حقّ الدفاع عن وجودها، لكن كل تلك البذاءة لا تعنينا الآن، وإنما يعنينا ما نقوله نحن عن كرامتنا وحقوقنا وأرضنا المحتلة، وعن هذه المعركة المغايرة.

ومما لا يجوز لنا، أن يتصرّف عربي باعتباره "يقف على الحياد"، ويحاول حلّ مشكلة بين الطبيعية في أرض فلسطين، ومعناه أنه يخاف التصريح عن موقفه الحقيقي المنحاز لوجود طرفين متخاصمين يتخذ منهما مسافة واحدة، ذلك أن وقوف العربي على الحياد في شأن فلسطين معناه انحيازه للكيان العبري المغتصب، ومعاداته حقوق الفلسطينيين والعرب إسرائيل، فيتّبع المراوغة في انتقاء كلماتٍ تُظهره على الحياد، متناسياً أن الحياد أمام الحقوق التاريخية خيانة لها.

حقاً: كيف لعربيٍّ أن يقف على الحياد؟ هل يمكن أصلاً الوقوف على الحياد في شأن القضية الفلسطينية؟ الحياد الموضوعي تلزمه قاعدة من التكافؤ بين خصمين، كأن يكون لكلٍّ منهما دولته المستقلة المقامة على أرضه التي يعترف بها الطرف الآخر، مع خلافٍ بينهما على أرضٍ أخرى. أما أن يكون الحياد بين طرفٍ محتل وآخر تحت الاحتلال، فهذا العوَر بعينه، والكذب المفضوح كله. لا حياد بين الظالم والمظلوم: تلك طبيعة الأشياء، لأن الحياد بينهما انحيازٌ فاجرٌ للظالم.

إذا كان الأمر كذلك من حيث المبدأ، فكيف به إذا صدر عن عربيٍّ يُفترض أن تكون فلسطين قضيته القومية والوجودية، فضلاً عن كونها قضية أخلاقية؟ الحياد عندها انحيازٌ للظالم ضد المظلوم، وانحيازٌ للعدو ضد الذات. إنه موقفٌ لا يقود إلا إلى فقدان الذات، وفقدان الهوية بكل محمولاتها الثقافية والتاريخية.

ما تزال فلسطين واقفة على قدميها، تدافع عن نفسها، وتحارب من أجل حقّها، لا يعنيها كل هؤلاء، بكل بذاءاتهم وسقطاتهم، فهم إنما يسيئون لذواتهم، لا لفلسطين وقضيتها، وهم إنما يكشفون عوراتهم، لأن فلسطين لا تحتاج منهم كلمة ولا موقفاً ولا عملاً.

أما الذين يخطئون في التعبير عن غير قصد، فعليهم الانتباه لما تستحقه قضية فلسطين من تأدّب وتوقير، والاعتذار عن هفواتهم، وعدم تكرارها، أو التزام الصمت.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.