اختبار سورية واختبار فلسطين

04 يوليو 2024
+ الخط -

هل يمكن للمرء أن يحافظ على موقف أخلاقي تجاه الأزمة السورية بينما يتخذ، في الوقت ذاته، موقفاً أخلاقياً تجاه قضية فلسطين، وهو يرى من تلطخت أيديهم بدماء الشعب السوري قبل سنوات يساندون اليوم المقاومة الفلسطينية في مواجهة الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزّة، وربما يدخلون حرباً ضد إسرائيل من "جبهتها الشمالية"؟

ربما يصحّ القول إن الفلسطينيين والعرب الذين وقفوا إلى صفّ حقّ الشعب السوري في التحرّر من الاستبداد يواجهون اليوم مأزقاً أخلاقياً وهم يعلمون أن صمود المقاومة الفلسطينية إنما تحقّق، إلى جانب تضحيات الشعب الفلسطيني وبطولات المقاتلين على الأرض، بفضل الإمداد بالسلاح الذي وفّره ما يسمى "محور الممانعة" الذي هو نفسه من ولغ في دماء الشعب السوري لمصلحة نظام بشّار الأسد وسعياً إلى منع سقوطه. فهل يمكن اليوم الانحياز إلى صفّ المقاومة الفلسطينية من دون أن يكون على المرء تغيير موقفه ممن أراقوا دماء السوريين بدعوى أنهم يدعمون قضية فلسطين؟

لم يكن مثل هذا المأزق موجوداً عندما نجح حزب الله في تحرير جنوب لبنان عام 2000، أو خلال تصدّيه للعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. لقد كان تحرير الجنوب اللبناني وحرب تموز 2006 بمثابة البشارة للعرب الطامحين بتحرير فلسطين وكنس الاحتلال الإسرائيلي، وكان الأخلاقيُّ تماماً، من غير شك ولا شائبة، أن يقف المرء مع المقاومة اللبنانية. لكن الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 وتداعياتها كانت كاشفة حقّاً، وبات من غير المعقول أن يكون للمرء موقف أخلاقي لصالح الشعب السوري، إن كان يواصل تأييد من شاركوا في استباحة دمائه.

أتاح ما يجري اليوم لمؤيدي النظام السوري الذين شاعت تسميتهم "الشبيحة" الظهور بمظهر المقاومين للاحتلال، أي كما لو أن انحيازهم للاستبداد كان غرضُه مقاومة الاحتلال والإمبريالية، أو كأن تأييد انتهاك حرمة دماء السوريين مقبولٌ إذا كان يقود إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أو كأنه يمكن الفصل أخلاقياً بين حق الشعب السوري في الحرية وحقّ الشعب الفلسطيني في التحرير، فيكون إهدار الأول وسيلة مبرّرة لتحقيق الثاني.

لن تكون القضية الفلسطينية "مغسلة شرف" للمجرمين في حقّ الشعب السوري

الاختبار الحقيقي اليوم، وسط هذه التطورات وهذا الخطاب الممجوج لـ"الشبيحة"، أن يتمسّك المرء بمبدأ عدم أخلاقية الفصل بين الحرية والتحرير؛ أي بين القضيتين، السورية والفلسطينية، ثم أن يدرك أن دعم "محور الممانعة" المقاومة الفلسطينية ينبع من ممارسة براغماتية في المقام الأول، تقع في قلب الصراع الإقليمي بين إيران وإسرائيل، ولا يصدُر من موقف أخلاقي رفيع، إذ كيف يدافع الأخلاقي عن شعبٍ ثم يقتل شعباً آخر؟ وفي هذا السياق، تبدو زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، طهران، للتعزية بوفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قبل أسابيع، تعبيراً عن التحالف بين المقاومة الفلسطينية ومحور الممانعة الذي فعل ما فعل في حقّ السوريين، لكن هذه التحالفات السياسية وما تمليه من ضرورات ليست شأن الفلسطينيين والعرب الذين يتعاملون مع القضية الفلسطينية من زاوية أخلاقية صرفة. إنها شأن الذين يديرون الأحداث، أما الذين يتخذون مواقفهم على أساس أخلاقي فعليهم أن يحافظوا على موقف ثابت تجاه الثورة السورية كما المقاومة الفلسطينية، ذلك أن التحالفات السياسية مسألة تتعلق بتقاسم المصالح، ولا يجوز من ثمّ أن تملي مواقف أخلاقية.

يقول "الشبّيحة" إن السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد هم من استجلبوا القتل على أنفسهم. ألا تذكرنا هذه العبارة بحجّة مؤيدي إسرائيل، أن الفلسطينيين في غزّة استجلبوا القتل والدمار على أنفسهم نتيجة هجمات السابع من أكتوبر؟ المنطق واحد في جوهره، فالطرفان (الشبّيحة وإسرائيل) يريدان أن يبدآ التاريخ من النقطة التي تعجبهما: 15 مارس/ آذار 2011 بالنسبة للأول و7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بالنسبة لإسرائيل، متناسين ما سبقها من انتهاك للحرية والكرامة، ويريدان اختراع مبرّرات قبيحة لقتل الناس وتشريدهم وانتهاك حياتهم، وهذا يؤكّد أنه لا يمكن للمرء أن يكون أخلاقياً إن كان يؤيد أحدهما، حتى لو قاتل الآخر. غاية ما في الأمر أنه يبحث عن مصالحه ويغير منطقه وخطابه بحسب ما تقتضيه المصلحة.

وهكذا، سيبقى القاتل قاتلاً والمجرم مجرماً، سواء أيد المقاومة الفلسطينية أم لم يفعل، وسواء قاتل إسرائيل أم باع خطباً رنانة ضدها. لن تكون القضية الفلسطينية "مغسلة شرف" لأولئك المجرمين في حقّ الشعب السوري، الذي قُتل منه خلال الثورة بين نصف مليون إلى مليون شخص معظمهم من النساء والأطفال، وتشرد منه ملايين اللاجئين والنازحين، عقب عقود من قتل وتشريد ملايين الفلسطينيين. القضية واحدة، اسمها قضية التحرير والحرية، ولا يمكن تجزئتها وتأييد إحداهما على حساب الأخرى.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.