جائزة نوبل للحماقة العلمية... والسياسية
أقامت الدورة الرابعة والثلاثون من "جائزة نوبل للحماقة العلمية" حفلها قبل أيّام، في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتّحدة، وفيه سلّم الفائزون بجوائز نوبل الحقيقية الفائزين بهذه الجوائز الفكاهية ورقةً نقديةً عديمةَ القيمة، صادرةً قديماً من زيمبابوي، وصندوقاً شفّافاً يحوي بنودّاً من قوانين مورفي، المتعلّقة بالحظّ العاثر، تقديراً لهم على اهتماماتهم العلمية "التي تجعل الناس يضحكون ثمّ يُفكّرون" وفق تعليمات الجائزة، ولكن بأجواء كوميدية، لا ساخرة.
لتوضيح الفكرة، من المشاريع التي فازت، مشروعٌ لتدريب الحمام على توجيه القنابل خلال الحرب العالمية الثانية، رفض المسؤولون العسكريون تطبيقه في حينها، وآخر لاكتشاف العلاقة بين شعور البقرة بالخوف ومقدرتها على إدرار الحليب، من خلال تفجير كيس ورقي بجوار قطّة تقف على ظهر بقرة، وثالثٌ عمل أصحابُه على التحقّق مما إذا كان الشعر على رؤوس الناس في نصف الكرة الشمالي يدور في الاتجاه نفسه، مثل أولئك من نصف الكرة الجنوبي، أو لا.
المهمّ أنّ هذه الجائزة، التي تضمّ حقولاً في الكيمياء والفيزياء والأحياء والنبات وغيرها، جديرة بأن يكون لها نظيرٌ في حقل السياسة، على أن تكون ساخرةً حقّاً من غير مجاملات، على كثرة ما نجد في العالم من حماقات سياسية تُؤذي ملايين الناس من الشعوب المتأثّرة بها، على غير حال مثيلاتها العلمية، التي يتوقّف أثرها على جهدِ مَن قاموا بها ووقتِهم.
قرار بوتفليقة، أو من كانوا حوله، الترشّح وهو مُقعَد على كرسيٍّ مُتحرِّك، أكبر حماقة سياسية رئاسية تتعلّق بالانتخابات
ليس ثمّة مبالغة في القول إنّ أكبرَ الحماقاتِ السياسيةِ في التاريخ العربي المُعاصر كانت قرار نظام صدّام حسين اجتياح الكويت عام 1990، إذ لم تتخلّص الدول العربية من آثاره بعد، بعد أن أهدر مواردَ عراقيةً وعربيةً هائلةً من أجل لا شيء، وأفضى إلى تدمير القوّة العسكرية العراقية الرادعة، وتعطيل تعافي الاقتصاد العراقي عقب الحرب الطويلة مع إيران، إلى جانب تهجير ملايين العاملين في الكويت، وتعطيل المشاريع التنموية العربية المشتركة، التي كان مُخطَّطاً لها.
ولقد أثبتت الأيّام أنّ تعمّد حكومة بنيامين نتنياهو الأولى (1996) تعطيل تنفيذ اتفاقات أوسلو، والتوصّل إلى حلّ نهائي في الصراع مع الفلسطينيين، يمثل حماقةً كُبرى، لأنّه أفضى اليوم إلى اشتعال الصراع في مُختلِف الجبهات، بعد نحو ثلاثة عقود عاد فيها نتنياهو مراراً إلى رئاسة الحكومة، وذلك بدلاً من أن يسعى عبر اتفاقات السلام لضمان استقرار "دولته"، وتعزيز وجودها في منطقةٍ يعرف القاصي والداني أنّها غريبة عنها، ومحتلّة لها. لقد قادت تلك الحماقة أخيراً، إلى جانب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي كلّها في الأراضي الفلسطينية، إلى اندلاع أحداث 7 أكتوبر (2023)، والحرب غير المسبوقة على قطاع غزّة. كذلك اشتعال المعركة مع المقاومة اللبنانية، التي تدخل يوماً بعد يومٍ فصولاً جديدةً، ما يُنذر بتطوّر الصراع العسكري في المنطقة.
هناك حماقات سياسية عربية عديدة، أبرزها جنوح بعض قادة الدول، التي شهدت ثورات الربيع العربي، إلى التمسّك بالسلطة عبر ألاعيب سياسية ظنّوها ذكيةً
ثالث الحماقات السياسية، التي تستحقّ الالتفات إليها، إقدام نظام بشّار الأسد على قتل مئات آلاف من الشعب السوري، وتهجير أعداد أكبر منهم خارج البلاد، سعياً لإخماد الثورة الشعبية التي قامت ضدّه انطلاقاً من عام 2011. سرّ الحماقة هنا أنّ ما فعله كلّه لن يضمن استقرار حكمه في المدى الطويل، ولن يعيد الحياة في سورية إلى ما كانت عليه قبل الثورة، كي يواصل الحكم بالطريقة التي اعتادها منذ ورثه عن أبيه. لقد تغيّر الشعب السوري تماماً.
ثمّة حماقات سياسية أخرى تستحقّ جائزةً فعلاً، على طريقة الورقة النقدية الصادرة من زيمبابوي، منها مقترحات دونالد ترامب عشية مغادرته البيت الأبيض أواخر عام 2020، في شأن الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، وسمَّاها "صفقة القرن". لقد اعتمد مقاربةً ماليّةً ظنّاً منه أنّ كلّ شيء يخضع لمنطق "البزنس". لعلّه لم يسمع بالمبادئ الوطنية والدينية التي تدفع الفلسطينيين والعرب والمسلمين إلى التمسّك بأرض فلسطين. أليست تلك حماقة؟
على مستوى أصغر قليلاً، هناك حماقات سياسية عربية عديدة، أبرزها جنوح بعض قادة الدول، التي شهدت ثورات الربيع العربي، إلى التمسّك بالسلطة عبر ألاعيب سياسية ظنّوها ذكيةً، وأثبتت الأيام أنّها كانت حمقاء، كتحالف الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح مع الحوثيين، خصومه السابقين، ما أفضى تالياً إلى مقتله. كذلك عناد الرئيس الليبي السابق مُعمّر القذّافي، وتوعّده الثائرين في بنغازي في خطابه "من أنتم؟"، بدل محاولة التفاهم معهم، ما قاد تالياً إلى امتداد الثورة من شرق البلاد إلى غربها. وقد يكون الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أعقلهم في حينه، لقراره التنحّي عن السلطة بعد نحو أسبوعين من اندلاع الثورة الشعبية ضدّه، رغم أنّ نظامه تورّط في أحداث عنف دموية في شوارع القاهرة، قبل ذلك التنحّي.
الفوضى السياسية هي البيئة المُثلى لظهور الحماقات السياسية
على هذا المستوى، قد يكون قرار الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، أو من كانوا حوله، الترشّح مُجدَّداً لانتخابات الرئاسة الجزائرية عام 2019، وهو مُقعَد على كرسيٍّ مُتحرِّك، أكبر حماقة سياسية رئاسية تتعلّق بالانتخابات، كان الأجدر به التخلّي عن السلطة طوعاً لأسباب صحّية، بدل أن يتخلّى عنها عنوة، حفاظاً على إرثه السياسي الكبير وصورته التاريخية سياسيّاً محنَّكاً وقائداً عظيماً، قبل توليه منصب الرئاسة لأربع دورات متتالية، وبعده.
إذا هبطنا قليلاً إلى الحماقات السياسية على المستويين، الوزراي والنيابي، ثمّة كثيرٌ ممّا يُقال في عالمنا العربي على وجه الخصوص، ويمكن لكلّ عربي أن يستذكر من بلاده مواقفَ طريفةً تُروى، والسبب الحقيقي وراء ذلك أنّ بلادنا تفتقر إلى الحياة السياسية، التي تعكس فيها الحكومات والمجالس النيابية مجتمعاتها بشكل صادق. هذه الفوضى السياسية هي البيئة المُثلى لظهور الحماقات السياسية.