"تكوين" والجدل في السلفيّة والنهضة

15 مايو 2024
+ الخط -

رفعُ المستوى الفكري العام في المنطقة العربية هو الهدف الذي قال يوسف زيدان إنه غاية "مؤسسة تكوين الفكر العربي"، في الفيديو التوضيحي الذي بثّه عبر "يوتيوب" من بيته بالإسكندرية غداة الهجوم الإعلامي الواسع الذي تبع الإعلان عن المؤسّسة في مؤتمر عقده مجلس أمنائها في المتحف المصري الكبير بالقاهرة.

يعدّ صاحب رواية عزازيل قائد المؤسّسة التي لا عضوية فيها باستثناء أعضاء مجلس أمنائها، كما شرح. وزاد موضحاً أن لا نيّة لدى المؤسسة للهجوم على الأزهر ولا على السُّنّة النبوية، بل إن هدفها التشجيع على التفكير والنقاش الحرّ من خلال لقاءات وندوات ومحاضرات فكرية وحضارية تبثّ عبر الإنترنت. وقال صراحةً: الدين ليس من موضوعات المؤسّسة، إلا حين تستخدمه جماعة ما باباً لتدمير المجتمعات؛ أي ببثّ أفكار العنف تحت غطاء ديني، كذلك ضمن الدعوة إلى إعادة بناء المفاهيم والتصوّرات العامة لتصحيح الفكر السائد في المجتمع. وأكّد زيدان عدم وجود توجيه علوي في عمل المؤسسة أو خضوع للسطة، وأن أحداً لم يتصل به أو بزملائه، آمراً: "قول إيه وما تقولش إيه".

كل هذه التوضيحات واجهتها كل تلك الشكوك، لأنه، من وجهة نظر المشكّكين، ليس معقولاً أن تجتمع في مجلس الأمناء تلك الشخصيات التي اشتهرت بنقد الأفكار الدينية السائدة، من دون أن يكون الدين موضوعها الرئيس، وهم إلى جانب زيدان: إبراهيم عيسى، فاطمة ناعوت، فراس السواح، إسلام بحيري، ألفة يوسف، نايلة أبي نادر. لكن الغائب في هذا الجدل أن الفهم الديني السائد عن الإسلام ليس الإسلام ذاته، وإنما واحدة من صوره استقرّت عبر القرون باعتبارها الإسلام الصحيح الوحيد. وبغضّ النظر عن الأسباب التاريخية والسياسية التي أدّت إلى ذلك، فإنه تصوّر يقوم على فهم الإسلام من خلال السلف؛ أي من خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، تستوي في ذلك التيارات الإسلامية المتشدّدة والمعتدلة، وتتماثل فيها السلفية العلمية والجهادية مع قوى الإسلام السياسي، بمن فيهم الإخوان المسلمون، كذلك المؤسّسات الدينية الكبرى كالأزهر، ولا يختلف عنهم إلا القرآنيون.

ليس معقولاً أن تجتمع في مجلس الأمناء تلك الشخصيات التي اشتهرت بنقد الأفكار الدينية السائدة، من دون أن يكون الدين موضوعها الرئيس

المهم، لا يكون الهجوم على "تكوين"، في حالة كهذه، دفاعاً عن الإسلام، وإنما عن التصوّر السلفي للإسلام الذي تستهدفه المؤسّسة من خلال إعادة بناء المفاهيم والتصوّرات العامة كما قال زيدان، وكما يقول موقعها على الإنترنت بوضوح "عبر فتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية وطرح الأسئلة حول المسلّمات الفكرية".

وهكذا، يمكن تصنيف الهجوم على مؤسّسة تكوين في اتجاهين: أحدهما يخشى خطاباً مغايراً للخطاب الإسلامي السائد، يؤثّر عليه ويغيّر في قبوله لدى الناس، فذهب ساخراً إلى تحريف اسم المؤسّسة إلى "تكوين الملحدين"، معتبراً تغيير المفاهيم الإسلامية السائدة نشراً للإلحاد. والثاني يشكّك في غايات القائمين على المؤسّسة، إذ يعتبرهم أبواقاً للسلطة، معادين للعروبة، لا للإسلام وحسب، ساعين إلى التخلّي عن الأهداف القومية السائدة، وفي مقدّمها الحقّ العربي في فلسطين.

وإذا كان الاتجاه التشكيكي الأول معروفاً وواضحاً في خطابه، سواء من التيارات السلفية أو من الأزهر الذي قال أمين عام هيئة كبار العلماء فيه، عباس شومان، إن الأمانة العامة للهيئة "تتابع حقيقة ما يُنشر عن تكوين كيان للنيْل من ثوابت الدين وأخلاقيات وقيم الأمة"، فإن الاتجاه الثاني لا تكمن مشكلته مع "تكوين" في إثارة النقاش حول المفاهيم السائدة بحدّ ذاته، وإنما في الغايات التي يتصوّر أنها مُضمرة من ذلك، معتبراً أنها استهداف ثقافة الأمة وحقوقها ومشروعها، تحت غطاء تطوير الفهم الديني، فمثلاً حين يثار النقاش حول حقيقة وجود المسجد الأقصى في القدس، أو صدقية حادثة معراج النبي محمد من القدس، كما فعل بعض شخصيات مجلس الأمناء سابقاً في نشاطهم الثقافي والإعلامي، فإن الأمر ليس تنويراً للعقل بشأن المرويات التاريخية والدينية بالنقاش المنطقي، وإنما هو استهداف لتمسّك الأمة بثقافتها وسرديتها التي تبني عليها حقوقها.

الجدل بشأن "تكوين" هو عن النيّات، استناداً إلى تاريخ أعضاء مجلس أمنائها، وليس جدلاً في أدبياتٍ أصدرتها المؤسسة أو برامج نفذتها

لافتٌ أن مؤسّسة تكوين تعتبر نفسها استمراراً لجهود مشروع النهضة العربية، وحلقة جديدة من حلقاته، لا مشروعاً لهدمه، كما يذهب تيار التشكيك الثاني، إذ تقول على موقعها الإلكتروني إنها تسعى إلى "إعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين"، وهو ما شرحه زيدان في ذلك الفيديو حين قال: "رفاعة الطهطاوي حاول، أحمد لطفي السيد حاول، طه حسين حاول"، معتبراً مشروع المؤسّسة استمراراً لهذه السلسلة التاريخية المتواصلة (من غير أن تنجح) منذ قرنين.

الجدل بشأن "تكوين" هو عن النيّات إذن، استناداً إلى تاريخ أعضاء مجلس أمنائها، وليس جدلاً في أدبياتٍ أصدرتها المؤسسة أو برامج نفذتها، وفيه خشية من أن اجتماع أصواتٍ نجحت منفردة خلال العقود الماضية في التأثير الثقافي على المجتمعات العربية، خصوصاً في مجال هزّ الخطاب السلفي السائد حول الإسلام، يمكن أن يقودها إلى تأثير أكبر، على غير ما ذهب إليه فراس السواح في مؤتمر إشهار المؤسّسة، حين قال وهو يخلط الهزل بالجد: سنفشل، قاصداً تحقيق المشروع النهضوي العربي، وتنوير المجتمعات العربية، وإشاعة التفكير النقدي عوضاً عن ترديد المسلّمات.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.