عن الشرطة الأخلاقية ودولة اللاقانون
إنه المجتمع نفسه الذي يثير هوجة "الستر" على ذكر بالغ، جنى على عرض طفلة صغيرة، باستدراجها إلى مدخل إحدى العمائر في حي المعادي في القاهرة. هو نفسُه الذي يتطوّع بدور الرقابة الأخلاقية على النساء، أيًا وأينما كان، ليتأكد من موافقتهن "كتالوغ" الأخلاق المثالي الذي يحمله كل واحدٍ من أفراد هذا "الشعب" تحت إبطه. وهو المجتمع نفسُه الذي يتطوّع فيه "البواب" بتحريض "الرجالة" أمثاله من ساكني العمارة، لكسر باب منزل طبيبة وقتلها، عندما شكّ أنها تمارس الرذيلة مع صديقها في الداخل. عندما تحدّث روبرت ميرتون سنة 1948 عن الاجتماع النفسي للعنصرية، كان منطلقه تحليل قاعدة بديهية وهي أن "الأدنى مدان أبدًا سواء تمثل بخصال الفئة الراقية أو لم يتمثل بها". فإذا أضيف إلى هذا منطق "فوقية الذكور"، تكون المرأة مدانةً بالعار، سواء تمثلت بعريضة الأخلاق التي يعرفها المجتمع لنفسه أو لم تتمثل بها، وإن مجرّد الشك في إخلالها بتلك القاعدة، في قرارة نفسها وداخل منزلها، كفيل بإنهاء وجودها في هذا المجتمع، كما أن الالتزام بها ليس ضمانةً كافيةً للوجود فيه، فالأصل أنها "محلّ العار" بمحض الوجود، والأصل أن مزية "الرجولة" وكتالوغ الأخلاق لا يناسب إلا "الذكور"، وليست محاولات "زوجة أحد الجناة" للتحلّي بالفضائل المنصوصة فيه إلا عشم كاذب كعشم إبليس في الجنة، فهذا لا يأمنها ضد المصير نفسه كونها "أنثى" أيضًا، و"عار" قائم يمشي على ساقين، قابل لإنهاء وجوده في أية لحظة، بالمنطق نفسه.
الخصائص التي تخوّل ارتقاء كرسي الحكم والشاهد والجلاد، والتي تمنح حصانة دائمة ضد العقاب، تشيع بين "جميع" الذكور، وتجب كل ما عداها
بالطبع، لا يخفى أن هذا المنطق المريض لا يصيب جميع الأفراد بالدرجة نفسها، لكن أوضح علاماته الدفع بأن "الكل مظلوم" ومعرّض للقهر، فالحقيقة أن القهر الذي تعرّضت له طفلة المعادي، والقهر الذي أفضى إلى مقتل طبيبة السلام كانا أبعد بسنوات فلكية عن ذلك الذي تعرض/ يتعرّض له المتحامون خلف أستار الرجولة، أو القوة، أو الفضيلة، حتى لو كانت مدعاة. والحقيقة أيضًا أن الخصائص التي تخوّل ارتقاء كرسي الحكم والشاهد والجلاد، والتي تمنح حصانة دائمة ضد العقاب، تشيع بين "جميع" الذكور، وتجب كل ما عداها، فلا يختلف "البواب" عن "الزوج" عن "القاضي" عن "الأخ" في الوصاية على أخلاق النساء، كما لا تقبل موازين القوى تدخل الدولة بالقانون، أو بسياسات التعليم أو الثقافة والإعلام، لتعديل تلك السلوكيات، فهذه تبقى ضمن سبل علاج الأعراض لا الأصل.
بمعنى آخر، لا يكفي أن نقول للجناة "إخص عليكو"، كما لا يكفي تعزيز دور المرأة بإفساح بعض المناصب القيادية في مجلس النواب وبعض الوزارات، للتأكد من استكمال "مشهد المساواة" صوريًا، فالواقع أن هذا لا يغير موازين القوى في مستوى المنزل والشارع والعمل، بل إنه يحفز متلازمة "الدونية والحقد" تجاه المرأة، كونها أدنى، ومع هذا تنجز وتحقق ما لا يستطيع ذكور كثيرون تحقيقه.
أنماط السلوك التي تفضي إلى الجريمة ليست سوى عرض لمركز بات راسخًا يكرّس دونية أي "آخر" مختلف
وربما كان هذا الحقد الحافز الأول للبواب في تحريضه على قتل الطبيبة التي تعلو قيمتها المجتمعية عنه، مع كونها أنثى بحسب هذا المنطق، وهو الحقد ذاته الذي دفع زوجة أحد الذكور للمشاركة في جريمة القتل، فمنطق الدونية يفترض أن كل الأفراد، في المستوى الأدنى، سواسية بمحض كونهم إناثا، ومحاولة الطبيبة الارتقاء بنفسها إنما كانت دافعًا لقتلها لا تكريمها، وليس ادّعاء الحفاظ على الشرف من الجناة إلا غطاء لتبرير الجريمة.
أنماط السلوك التي تفضي إلى الجريمة ليست سوى عرض لمركز بات راسخًا يكرّس دونية أي "آخر" مختلف، أنثى أو مثلي أو غير مسلم أو خلافه، ويؤهل لمحو وجوده بموجب الشك في كونه "آخر".. وفي هذه الواقعة ومثيلاتها، لا يتوقع نهاية قبل أن تقف الدولة حكمًا عادلاً في كل الجرائم التي يتطوّع بها الذكور لممارسة الشرطة الأخلاقية على النساء، بوصفهن "عارًا" ينبغي ضبطه ورقابته.. ولا يتوقع نهاية قبل إزالة الأسباب التي تفضي إلى موضعة المرأة في مستوى أدنى من الذكر، بدءًا من قوانين الأحوال الشخصية الجائرة إلى قوانين العمل، وأخيرًا قوانين جرائم العنف المبنية على الجنس.. فمحو مركز "المفعول به" هو أول الطريق في ظني، والله أعلم.