قبل عشر سنوات كنا هناك
في بلدٍ قيل عن أهله إنهم لا يثورون أبدًا، وإن "بناة الأهرام" كانوا عبيدًا لدى ملوك الفراعنة، كان ميدان التحرير فيه في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 يعج بالثوار من كل صوب، ويرجّ الأرض بهتافاتٍ لأجل "العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية".
كانت التظاهرات التي أفضت إلى سقوط نظام حسني مبارك أبرز حلقات حشد اجتماعي متواصل قامت به شبكاتٌ من الشباب الناشط حقوقيًا وسياسيًا، عبروا التحزّبات السياسية والأيديولوجية، واستفادوا من نكسات انتخاباتٍ هزلية، ونخبٍ حزبيةٍ متآكلة، وإجرام الأجهزة الأمنية، ومشروع لتوريث رئاسة البلاد لنجل الرئيس، جمال مبارك، وكذلك من مساحاتٍ أتاحتها أجنحة أمنية موالية للمؤسسة العسكرية (لمنع مشروع التوريث)، وعدو أعتى من سابقه يتباطأ عن البطش بالمتظاهرين، قبل أن يبطش بهم حيث لا منافس يواجهه.
لم يكن الحراك الشعبي مؤامرة، ولا الدماء التي سالت أنهارًا في ميدان التحرير (في القاهرة) كذبًا، ولم يكن مقتل علماء، كالشيخ الشهيد عماد عفت، مسؤول الفتوى في الأزهر هباءً، فالحق أن حراكا شعبيًا نشب وتنامى، لأجل حقوق أساسية حرم الناس منها عقودًا، إلى أن كادت تنسى.
يشتري النظام بدماء المصريين وأموالهم أنظمة استخباراتية من إسرائيل وعربات أمن مركزي وغواصات مراقبة من فرنسا، لإحكام القيود وغلق الحدود
تحوّل الربيع إلى شتاء سريعًا، عندما قرّرت النخب العسكرية في مصر أن لا تنازل عن الحكم المباشر لمقدّرات البلاد (حمايةً لمصالحها الفئوية والنخبوية الضيقة). وعندما اتفقت تلك المصالح وتزامنت مع سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى إعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها لموضعة إسرائيل في خريطة المصالح الاستراتيجية فيها، وكسر "السقف" الذي وضعته الأنظمة السابقة، على علاتها، فخريطة الأنظمة والمصالح التي لم تكن تسمح بتطبيع دولة مثل الإمارات مع إسرائيل، أو باستقرار إسرائيل وأمانها وحميمية شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع دول المنطقة، تم استبدالها اليوم بمصر التي يرسل نظامها العسكري طائرات إطفاء الحرائق لـ"نجدة" إسرائيل، ولا يرسل طعامًا لسكان غزة المنكوبين بالحصار والقتل البطيء، مصر التي مزّق نظامها العسكري أوصال أهل غزة، وقطعهم عن قبائلهم وذويهم في شمال سيناء، في أكبر عملية تهجير قسري شهدتها البلاد منذ قرون، فيما عرف بـاسم "المنطقة العازلة" وعمليات مكافحة الإرهاب. مصر التي تجرأ نظامها على أن يرتكب مجازر ويدكّ منازل على رؤوس أهلها ويقلع مزارع الزيتون التي يربو عمرها عن عمر أجدادنا في سيناء، ليحقق ما لم يفعله الاحتلال الإسرائيلي نفسه في عام 1967، مصر التي يتولى نظامها إعادة بيع الغاز المستخرج من حقول إسرائيل (هي ملك سكان فلسطين الأصليين وليس العدو الصهيوني) في المنطقة. مصر التي تنازل نظامها عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية. مصر التي يشتري نظامها بدماء المصريين وأموالهم أنظمة استخباراتية من إسرائيل وعربات أمن مركزي وغواصات مراقبة من فرنسا، لإحكام القيود وغلق الحدود ومنع إفلات أي مواطن من قبضتها، سواء في الشارع أو المنازل أو الميادين أو حتى عبر البحر. .. لم تكن هذه هي مصر التي تعاملت معها إسرائيل والولايات المتحدة منذ عشر سنوات.
نعم، أفسحت الثورة في 25 يناير الطريق إلى هذا كله، لكن العتب ليس على من طلب الحرية والعدالة، ولا على من قتل وغاب تحت التراب، أو بقي فوقه وفي حكم الأموات، أو صار مهجّرًا في غياهب الأرض، الحق أنه لا استقرار داخليًا وخارجيًا، ولا حتى لمصالح الدول الكبرى في المنطقة، إلا بإتاحة السبيل إلى الحرية والعدالة، بإتاحة السبيل لأنظمة تعكس حقيقة الشارع العربي، وترك المجال لتشكلها ونموها، وإلا ستبقى "فزاعة" الإرهاب التي صنعها وصممها نظام عبد الفتاح السيسي على عينه، منذ جاء إلى الحكم لاستبقاء نفسه ونخبته الضيقة، مسمارًا في نعش النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل منذ 2013.