عن السياسة الفرنسية إزاء المغرب العربي
بعد مرور أكثر من ستة عقود على جلاء الاحتلال الفرنسي عن الدول المغاربية، تظل العلاقة بين المحتل السابق والدول الثلاث، تونس والجزائر والمغرب، من الملفات الشائكة والمعقدة التي تديرها الخارجية الفرنسية بكثير من الحذر، وأيضا بانتهازية عالية متوارثة منذ الزمن الاستعماري.
كانت تعقيدات المنطقة المغاربية بالنسبة لفرنسا تتركّز أساسا في كيفية إدارة العلاقة مع الدولتين الكبيرتين، الجزائر والمغرب، والحفاظ على حضور قوي ومؤثر هناك يقتضي، في الوقت ذاته، اللعب على التناقضات وعدم التورّط في الانحياز لأحد الطرفين في صراعهما المزمن، خشية ضياع المصالح الفرنسية المتوارثة هناك، والتي تتراوح بين تأثير ثقافي قوي لغةً وتفكيراً وصناعةً للنخب وانتهاء بمصالح اقتصادية ضخمة، تحرص فرنسا على استمرارها.
تاريخيا، ظل التحالف وثيقا بين فرنسا والملكية المغربية عقودا، خصوصا في زمن التقارب الجزائري مع الاتحاد السوفييتي، إلا أن تغييرات كثيرة حصلت في السنوات الأخيرة، فلم يعد المغرب مضطرّا إلى مسايرة فرنسا في كل سياساته الخارجية، وإنما أصبح يحاول بناء تصوّره الخاص لعلاقاته الدولية، وقاعدتها أن تطوير الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول والتكتلات يتحدّد انطلاقا من مواقفها من وحدته الترابية، حيث أكد ملك المغرب، في خطابه بمناسبة ذكرى "ثورة الملك والشعب" (السبت 20 أغسطس/ آب 2022)، أن "ملف الصحراء هو النظّارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات". وفي المقابل، تحرص الجزائر على ترتيب سياساتها الخارجية وفق الموقف من قضية الصحراء الغربية التي أصبحت عامل تعبئة وطنية لدى طرفي النزاع.
تظلّ السياسة الفرنسية إزاء تونس أكثر تمركزا حول التوجه الكولونيالي الفرنسي التقليدي
هكذا يجد الرئيس الفرنسي، ماكرون، نفسه في مشكل حقيقي في التعامل مع الملف المغاربي الشائك. ومن المعتاد أن يفتتح الرؤساء الفرنسيون عهدة حكمهم الجديد بزيارة إلى إحدى الدول المغاربية، وإذا كان ماكرون قد اختار زيارة المغرب سنة 2017، فإنه افتتح سنوات حكمه هذه المرّة بزيارة الجزائر الأسبوع الماضي. ولا يعني هذا الموقف انحيازا إلى الجزائر بقدر ما يندرج في إطار تحسين العلاقة معها. والأهم من هذا هو تعبير عن حالة الصراع الصامت بين الدول المتوسطية الأوروبية الثلاث، فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. وإذا كانت الأزمة بين الجزائر وإسبانيا قد بلغت أوجها، ودفعت هذه الأخيرة إلى مزيد من التحالف مع المغرب، فإن التصعيد الإعلامي والسياسي الذي شهدته العلاقة بين فرنسا والجزائر على خلفية المواقف الفرنسية من زمن الاحتلال قد تراجع، ليحلّ محله غزل واضح بين الطرفين، ومزيد من التنسيق والتعاون الاقتصادي، فالرئيس ماكرون يحاول مجاوزة عُقد الماضي في العلاقة مع الجزائر، والتركيز على بناء صرح علاقاتٍ جديدةٍ تقوم على مصالح مشتركة في مجالات الطاقة والصناعة وصفقات السلاح. وفي الوقت نفسه، هو يدرك أن علاقة بلاده التاريخية مع المغرب قد تتأثر بهذه الخطوات بشكل غير مسبوق، غير أن رهانه الأكيد في هذا المجال أن سنوات الارتباط بين باريس والرباط قد أوجدت شبكة معقدة من المصالح المتبادلة التي يصعب تفكيكها وإنهاؤها، فالمغرب يحتضن أكبر جالية فرنسية في الخارج، وتحظى الشركات الفرنسية بامتيازاتٍ واسعة في النسيج الاقتصادي المغربي. هذا بالإضافة إلى شبكات التأثير المتبادل التي يحرص الطرفان على بقائها واستمرارها، حتى في ظل أسوأ الأزمات التي شهدتها العلاقة بين البلدين.
يجد ماكرون نفسه في مشكل حقيقي في التعامل مع الملف المغاربي الشائك
وتظلّ السياسة الفرنسية إزاء تونس أكثر تمركزا حول التوجه الكولونيالي الفرنسي التقليدي، فقد كانت فرنسا الدولة الغربية الوحيدة التي ظلّت تدعم نظام بن علي إلى آخر لحظة قبل إطاحته إثر ثورة شعبية سنة 2011، وتعرّضت فرنسا لانتقادات واسعة في أثناء العشرية الديمقراطية، بوصفها دولة هيمنة واحتلال، ولكنها ظلت، رغم ذلك، الدولة الأكثر تأثيرا من خلال حضورها الثقافي القوي، و"النخب" الفرنكوفونية النافذة الموالية لها، والتي استمرّت تتحكّم في مفاصل الدولة ومجالات الثقافة والإعلام. وبعد إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيّد، منهيا المسار الديمقراطي برمته، كان واضحا الدعم الفرنسي الخفي لهذا التوجّه، وتجلّى في الموقف الرمادي الذي تبنّته باريس، في مقابل مواقف الضغط التي اتخذتها دول أوروبية مختلفة والولايات المتحدة. وأخيرا، أكّد ماكرون دعمه إجراءات اعتماد دستور جديد في تونس، معتبرا إياها خطوة مهمة في البلاد.
ظلت السياسة الفرنسية إزاء المنطقة المغاربية تقوم على اللعب على التناقضات، واعتبار المنطقة التي احتلتها طويلا مجرّد حديقة خلفية تحافظ من خلالها على نفوذها الثقافي والاقتصادي، وهو ما يجعلها تضغط أحيانا على أنظمة الحكم المغاربية، كلما اعتبرت أنها تسعى إلى الابتعاد عن فلكها، غير أن تطوّرات المرحلة الحالية وتزايد النفوذ الروسي والصيني في أفريقيا وتصاعد الدور الأميركي في إطار الصراع الدولي تجعل النفوذ الفرنسي عرضةً للانكماش لصالح قوى هيمنة أخرى، غير أن هذا قد لا يكون في المدى المنظور، إلا أن الأكيد أن السياسات الخارجية الفرنسية سيكون عليها عبء الحفاظ على ما تبقى من نفوذ الأمس، في ظل تغييراتٍ تلحق المنطقة، وسيكون لتحولات النفوذ الإقليمي (الصراع مع إيطاليا وإسبانيا) وحضور القوى الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) دور مهم في تحديد ملامح المرحلة المقبلة.