عن الحملة الانتخابية التونسية وعوائقها السياسية

30 نوفمبر 2022

تونسيون يتظاهرون في العاصمة احتجاجا على تنظيم الانتخابات وقوانينها (15/10/2022/Getty)

+ الخط -

مع انطلاق الحملة الانتخابية التشريعية يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، لا شيء في تونس يشيع الفرح السياسي والاحتفال الانتخابي والأمل في الوصول إلى السلطة كليّا أو جزئيّا، أو حتى الرغبة في تولي وظيفة المعارضة من داخل المنظومة الحاكمة ومراقبة من يحكم والحيلولة دون تغوّله واستفراده بالحكم والنزوع نحو الاستبداد، فتلك المفاهيم والمسمّيات لم تعد ذات دلالة ورمزية في القاموس السياسي لسلطة 25 جويلية (يوليو/ تموز). نجحت تلك السلطة التي يقودها الرئيس قيس سعيّد في تثبيت اللامعنى السياسي وشيطنة السياسة وترذيل الأحزاب ومنعها من الفعل العام، بالطرق الناعمة والزجرية وإلغاء أدوارها بواسطة التشريعات والنصوص القانونية المؤسّسة لحكم الرئيس، على غرار دستور 2022 ومعظم المراسيم التي أصدرها في فترة حكمه الاستثنائية، حتى بلغ الأمر بأغلب مرشّحي الأحزاب المشاركة، على ندرتهم، إخفاء انتماءاتهم الحزبية ونكران هويتهم الأيديولوجية والسياسية.

لقد كان للرئيس ما أراده من إفراغ الحياة السياسية التونسية من المضامين والبرامج والروابط الوطنية التي تبلورت على مدى قرن ونصف القرن من عمل النخب التونسية ومساهمات قادة الرأي والفكر والسياسة، لما تميّز به مرسومه الانتخابي من إكبارٍ لأصحاب المال وإعلاء شأن انتماءات ما تحت وطنية، الجهوية منها والمحلية القبلية والعشائرية، وجعلها مصدرا لشرعية الفوز بمقعد نيابي، بعد أن ألغى نظام الاقتراع على القوائم الميتا - محلي واستبداله بالدوائر الفردية المنسجمة مع فكرة مجتمع الأفراد، الخالي من الأجسام الوسيطة، القائم على النظام القاعدي المُبشّر به رئاسيا. الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها يوم 17 الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول) قد طاولها الفساد السياسي والمال الفاسد قبل الوصول إلى يوم الاقتراع، كما شهد بذلك الرئيس سعيّد نفسه يوم 7 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) في أثناء لقائه رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، مقرّا بـ"التلاعب بالتزكيات لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب"، وبضرورة "وضع حد لهذه الظاهرة المتعلقة بالمال الفاسد، وتعديل المرسوم المتعلق بالانتخابات"، بعد أن "صارت التزكيات سوقاً تباع فيها الذمم وتُشترى".

ورغم هذا الإقرار الصريح بعدم نزاهة الانتخابات التونسية من رأس السلطة التنفيذية، صاحب كل السلطات بموجب الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، وبمقتضى دستور 25 جويلية، فإن النص المنظّم للانتخابات الذي أتاح التلاعب بالتزكيات بقي على حاله، وتمكّن من اشتروا الذمم من الترشّح في انتظار الحصول على مقاعد برلمانية. أسّس النص ذاته لسلطان المال على العملية الانتخابية، عندما ألغى دور الدولة في التمويل العمومي للانتخابات، وأوكل الأمر إلى التمويل الذاتي والخاص، وفق صريح قول المرسوم الانتخابي في الفصل 75 جديد "يتم تمويل الحملة الانتخابية وحملة الاستفتاء بالتمويل الذّاتي والتمويل الخاص دون سواهما وفق ما يضبطه هذا القانون". ولن يفلح في شيء "جدول السقف الجملي للإنفاق على حملة انتخابات أعضاء مجلس نواب الشعب لسنة 2022" الذي نشرته الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، فخصخصة السياسة وتحويل الانتخابات والأصوات إلى سلعةٍ تباع وتشترى، باتا أمرا واقعا في تونس، والغلبة ستكون حليف المرشّحين القادرين على تمويل حملاتهم الانتخابية، للوصول إلى أكبر قدر من الناخبين، ولمَ لا الدفع نقدا لنيل رضى شرائح قابلة لبيع أصواتها في سوق الانتخابات، مثلما بيعت الإمضاءات في سوق التزكيات.

كان للرئيس ما أراده من إفراغ الحياة السياسية التونسية من المضامين والبرامج والروابط الوطنية التي تبلورت على مدى قرن ونصف القرن

لم تقتصر غرابة الانتخابات التونسية على قوانينها الزجرية وقيودها الإقصائية لمن سوّلت لهم أنفسهم الترشّح للمجلس النيابي، ما حوّل هيئة الانتخابات ومختلف فروعها الجهوية والمحلية إلى ما يشبه محاكم التفتيش التي لا يخجل أعضاؤها من الحكم على النيات والرغبات ومصادرة الأفكار والأفعال، قبل التعبير عنها ووقوعها، وإثقال كاهل العملية الانتخابية بترسانةٍ من الأوامر والقرارات والمنشورات والإجراءات التي تجعل من المرشّح والناخب متهميْن إلى أن يُثبتا براءتهما، وإنما بلغت أوج العبث السياسي والانتخابي، عندما أتاحت لعشرة مرشّحين الاحتفال بتمكينهم من مقاعد برلمانية من دون حملة أو منافسة انتخابية، وبصفر من الأصوات إن اقتضى الأمر، وهي مفارقةٌ لم يشهد تاريخ الانتخابات مثيلا لها، وذلك وفق مقتضيات الفصل 109 جديد من المرسوم الانتخابي "إذا تقدّم إلى الانتخابات مترشّح واحد في الدائرة الانتخابية، فإنّه يصرح بفوزه منذ الدور الأول مهما كان عدد الأصوات التي تحصّل عليها".

تعزّز الدور الزجري الجائر للهيئة الانتخابية المنصّبة من الرئيس، بموجب الأحكام العرفية أو ما يعرف بالحالة الاستثنائية التي تعيشها تونس منذ 25 يوليو/ تموز 2021، بالمرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وهو قانون مكمّم للأفواه والحريات في المجالين، الاتصالي والإعلامي، ثقيل العقوبات البدنية والمالية، ظهرت آثاره سريعا من خلال بعض محاكمات الرأي، مثل محاكمة مدير موقع "بزنس نيوز" المشتكى به من وزيرة العدل، على خلفية نشر مقال صحفي باللغة الفرنسية، يقيّم فيه صاحبه أداء حكومة نجلاء بودن بعد سنة من تعيينها. وهذا القانون هو بمثابة الأرضية الخصبة لهيئة الانتخابات لإعادة إنتاج ما كانت تقوم به وزارة الداخلية قبل سنة 2011 من تضييق سياسي وأمني على "مجتمع الانتخابات"، بأحزابه وناخبيه ومترشّحيه وإعلامييه، وكل من تربطه صلة بالفعل الانتخابي، وتتبعهم عدليا وإثارة الدعوى ضدهم. وقد بلغت النرجسية والتكبّر والشطط بهيئة الانتخابات حدّ الاستيلاء على بعض وظائف الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) وصلاحياتها، تمهيدا لإنهاء دورها بالكامل بعد تجريدها من الاستقلالية والصبغة الدستورية، والتخلّص منها لفائدة هيمنة السلطة التنفيذية على الإعلام والاتصال، وهذا الاتجاه تُرجم قانونيا في الفصل الأول جديد من القرار عدد 31 المؤرّخ في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 في فقرته الثانية "للهيئة العليا للانتخابات الولاية الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها"، في حين أن الفصل 67 من القانون عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء ينصّ على أن "تتولّى الهيئة بالتشاور مع الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري ضبط القواعد والشروط العامة التي يتعيّن على وسائل الإعلام التقيد بها خلال الحملة الانتخابية"، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن العملية الانتخابية، بسموّها وعليائها ونزاهة تنافسها التي تصبو إليها، عادت في ظلّ "سلطة 25 جويلية" إلى صوريّتها وهجرانها من جمهورها الواسع متعدّد ومختلف الاتجاهات والآراء والأفكار ومن التغطية الإعلامية المحايدة.

حملة انتخابية باهتة شاحبة، سمتها اليأس من إمكانات التغيير، قاطعتها أغلب مكونات الطبقة السياسية

وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ تونس التي تنطلق فيها الحملة الانتخابية من دون اجتماعات افتتاحية كبرى للأحزاب والجبهات والائتلافات السياسية، ترتفع فيها الرايات والشعارات الأساسية والألوان المتعدّدة التي تحيل على الصراع والتنافس من أجل قيادة الشأن الوطني وتولي الحكم وتحمّل مسؤولياته وعواقب ممارسته، بعد أن تقارع البرامج والمخطّطات والأرقام بعضها بعضا، ويتحاجج المتنافسون وتنتظم المناظرات الانتخابية التي تجتبي لها القوى السياسية قياداتها الأكثر بروزا وخطابةً وتأثيرا، وتنقلها وسائل الإعلام إلى الجمهور الواسع، حتى يختار الحزب أو الشخصية السياسية الجديرة بالثقة والتأييد.

ما يجري في تونس حملة انتخابية باهتة شاحبة، سمتها اليأس من إمكانات التغيير، قاطعتها أغلب مكوناتِ الطبقة السياسية ورموز السياسة وقادتِها التاريخيين والشخصيات الوطنية المؤثّرة لصالح أفراد منتشرين في مختلف الدوائر الانتخابية لا رابط بينهم، يقدّمون وعودا محلية مبهمة، لا تدخل في مجال الاختصاص النيابي، تُستنزف جهودهم في التعريف بأنفسهم لدى جمهور واسع لا يُعرّفهم ولم يسمع عنهم ولم يرهم سابقا، إلا ما قلّ، وليس على يقين إن كان سيذهب إلى الصندوق يوم 17 ديسمبر أم لا، فالطقس البارد قد يستحيل برودةً انتخابية، بعد الثقة المطلقة التي منحها هذا الجمهور الواسع للرئيس وفريق حكمه على مدى السنة ونصف السنة، وكانت إفرازاتها مزيدا من انتشار الفقر والجوع وفقدان المواد الأساسية والأدوية في الأسواق التونسية والارتفاع المشطّ للأسعار وتهاوي الدينار مقابل اليورو والدولار، والإمعان في المديونية وضياع السيادة الوطنية، وتخلّي حكومة الرئيس سعيّد عن إرث الدولة الاجتماعي في التشغيل والصحة والتعليم ومنع التفويت في المنشآت العمومية وخصخصتها، وموت آلاف التونسيين في البحر سنويا، بما يعنيه ذلك من فقدان الأمل في الحياة الكريمة والإصلاح، خصوصا بعد وضع البلاد تحت وصاية صندوق النقد الدولي وسلطانه مقابل أقل من ملياري دولار، والالتزام بما يضعه هذا الصندوق وغيره من المؤسّسات المالية المقرضة من برامج وسياسات، في صيغة اتفاقياتٍ ومعاهداتٍ تعلو على القوانين التونسية في سلّم التراتب التشريعي التونسي، لن تكون لمجلس النواب المقبل قدرة على تغييرها وسنّ ما يخالفها من قوانين وتشريعات.