عن الانقلابو- فوبيا في تونس
يطفو موضوع الانقلابات العسكرية والسياسية على سطح النقاش والجدل الذي ينخرط فيه المجتمعان، السياسي والإعلامي، في تونس، من فترة إلى أخرى، وينعكس سلبا وإيجابا على الطبقات الشعبية والنخب المحلية التي تتخذ من منصّات التواصل الاجتماعي، وخصوصا فيسبوك، منبرا لإبداء تفاعلها والتعبير عن مواقفها وإبراز أحاسيسها ومشاعرها تجاه الظاهرة الانقلابية. ويبدو أن هذا الموضوع قد تحوّل إلى نوع من الانقلابو- فوبيا، أو الخوف غير العقلاني، والرهاب من تدخل الجيش في الحياة السياسية وتولي السلطة، على غرار ما حدث ويحدث في دول عربية وبلدان إفريقية وآسيوية وأميركية لاتينية كثيرة.
ولكن هذه الصفة تنفيها أعمال أكاديمية مختصة في تاريخ الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، والمهتمة بتجربة الجيش التونسي تاريخا وواقعا معيشا، فقد جاء في كتاب نبيل خليل "ملف الانقلابات في الدول العربية المعاصرة" (دار الفارابي، بيروت، 2008) أنه "على أربعين انقلابا عرفتها المنطقة العربية منذ عام 1949 نجد أن نصيب سورية منها تسعة انقلابات تليها موريتانيا بستة انقلابات ثم العراق والسودان اللذان سجلا أربعة انقلابات لكل منهما تبعهما لبنان وجزر القمر بثلاثة انقلابات أما مصر والصومال وليبيا فقد شهدت كل منها انقلابا واحدا". ويلاحظ من هذا التصنيف عدم إدراج تونس ضمن البلدان العربية التي عرفت تجربة الانقلابات العسكرية. ويميل إلى هذا الرأي أستاذ العلوم السياسية والعسكرية في الجامعات الأميركية، نور الدين جبنون، في مقاله "دور الجيش في الثورة التونسية" المنشور في كتاب "ثورة تونس: الأسباب والسياقات والتحديات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012). يكتب "تعتبر المؤسسة العسكرية الوطنية التونسية فريدة من نوعها مقارنة بالمؤسسات العسكرية في العالم العربي، إذ تميزت، منذ انبعاثها، كقوة مسلّحة بمستوى عال من المهنية، على الرغم من عددها وعتادها المتواضعين. إضافة إلى ذلك فإنها لم تتورط في انقلابات أو ثورات ضدّ الدولة أو النظام". لكن جبنون الذي ينأى بالجيش التونسي عن تنظيم أو المشاركة في انقلابات أو ثورات يعود للحديث عن الانقلاب "الطبي - الدستوري"، ويقصد الانقلاب الذي قاده زين العابدين بن علي يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 متوليا الحكم بعد إطاحة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. وعلى الرغم من شيوع مصطلح الانقلاب الطبي الذي أطلقه أوّل مرّة المؤرخ التونسي، مصطفى كريم، في مقاله "تأملات في شخصية بورقيبة" في كتاب "الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية قراءات علمية للبورقيبية" (مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس، 2000)، فإن انتماء بن علي إلى المؤسسة العسكرية التونسية، بعد تخرجه من كلية سان سير ومن مدرسة المدفعية بشالون سور مارين الفرنسيتين، ومشاركته في البرنامج الدراسي للاستخبارات والأمن العسكري بفورت هلابيرد الأميركي، مؤكد، وذلك قبل أن يعيّن مديرا للأمن العسكري التونسي، ليتولى بعد ذلك عدة وظائف عسكرية وأمنية، أهمها ملحق عسكري في بعض السفارات التونسية، ومدير للأمن الوطني ووزير دولة مكلف بالأمن، ثم وزير للداخلية بالتوازي مع خطة وزير أولا، الأمر الذي مكّنه من إطاحة بورقيبة، معتمدا على خطّة أمنية قادها ونفّذها صحبة رفيق دربه الضابط السامي السابق في الجيش التونسي وآمر الحرس الوطني آنذاك، الحبيب عمّار. وقد استبق بن علي، بانقلابه الطبي، انقلابا آخر كانت تخطط لتنفيذه حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة) يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، لإطاحة الرئيس بورقيبة ونظام حكمه. يصف القيادي في حركة النهضة ووزير التعليم العالي السابق، المنصف بن سالم، في كتابه "سنوات الجمر .. شهادات حيّة عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس" (2014) مراحل الانقلاب العسكري والأمني "الإسلامي"، بقوله "جمعت ما أمكن من بعض الشخصيات والمطلعة على نقاط قوة الحركة أو لها صلة ببعض ضباط الجيش والشرطة ممن لهم ميولات إسلامية ومن الوطنيين المخلصين، وجدت الطريق معبّدة وسهلة إلى حدّ كبير، جلّ الناس يشعر بضرورة التغيير ولا مجال لبقاء بورقيبة في سدة الحكم". وفي ما يتعلق بتنفيذ الخطة العسكرية الانقلابية، يقول القيادي الإسلامي "أول عمل قمنا به وضع عناصرنا في المواقع الحساسة يوم 7/11 (1987)، ليكونوا في أماكن التنفيذ، ثم أحصينا ما لنا من أدوات عمل: دبابات، طائرات، ناقلات جنود، مخازن أسلحة، ذخيرة، قاعات عمليات، هواتف مهمة، أجهزة اتصال لاسلكي، مواقع اتصالات الوزارات المهمة والرئاسة الإذاعة والتلفزة..". ويعترف بن سالم بأن "رجال المجموعة كانوا في المواقع الحساسة في انتظار أوامر البدء أو ساعة الصفر"، لكن بن علي سارع إلى تنفيذ انقلابه لإجهاض المخطط "الإسلامي". وإذا أضفنا إلى هذه الوقائع التاريخية المحاولة الانقلابية التي خطّط لها مجموعة من الضباط اليوسفيين (نسبة إلى صالح بن يوسف) سنة 1962، على غرار محمد بركية ومحمد قيزة وعمر البنبلي، انتقاما لصالح بن يوسف الذي تم اغتياله سنة 1961، وقد ذاع اتهام رئيس الدولة الحبيب بورقيبة بذلك، وبتخطيط من وزارة الداخلية التي كان يتولاها آنذاك الطيب المهيري، كما فصّلت القول دراستنا "الأزمات الاجتماعية والسياسية في تونس 1957 -1987" المنشورة في كتاب "القضاء والتشريع في تونس والبلاد العربية" (مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس، 2004)، فإن محاولات استعمال الجيش التونسي، إبّان فترتي حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بغرض تغيير نظام الحكم وتولي السلطة لم يكن مجرّد شكّ أو تخمين.
تيار الإسلام السياسي، مجسّدا في حركة النهضة وأنصارها، قبل أن تلحق بها جماعة ائتلاف الكرامة ومناصريه، هم الأكثر إثارة للمسألة الانقلابية
لقد استطاع الجيش التونسي أن يمسح من الأذهان ومن الذاكرة السياسية تلك الصورة الانقلابية، تخطيطا أو محاولة أو تنفيذا، والتي علقت بثلاثة تيارات فكرية وسياسية رئيسية، العروبيون (اليوسفيون) والإسلاميون (المجموعة الأمنية لحركة الاتجاه الإسلامي) والدستوريون (بن علي وجماعته)، واستثني منها تنظيمات اليسار التونسي، برفضه تولي الحكم عشية 14 يناير/ كانون الثاني 2011، لمّا كانت السلطة ملقاة على قارعة الطريق تنتظر من يتلقفها، وتأمينه عملية انتقال الحكم وحمايته الانتقال الديمقراطي ومرافقته إبّان مختلف المراحل التي مرّ بها على مدى عشر سنوات، ودوره البطولي في مقاومة تنظيمات الإرهاب الإسلامو – سياسية، وما صاحبه من تقديم تضحيات وشهداء.
وعلى الرغم من ذلك، تأبى الدعاية الانقلابو- فوبية التوقف، مع الإشارة إلى أن تيار الإسلام السياسي، مجسّدا في حركة النهضة وأنصارها، قبل أن تلحق بها جماعة ائتلاف الكرامة ومناصريه، هم الأكثر إثارة للمسألة الانقلابية. ولعلّ ذلك يعود إلى استحضارهم المستمر إطاحة حكم الإخوان المسلمين في مصر سنة 2013، وتولي الجيش المصري السلطة، بقيادة وزير الدفاع السابق، عبد الفتاح السيسي، والخشية من إعادة تلك التجربة في تونس.
وفي هذا السياق، اتهم الإسلاميون سنة 2018 لطفي براهم، وزير الداخلية في حكومة يوسف الشاهد، بالتخطيط لانقلاب على الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بدعم من دولة الإمارات، ما أدى إلى إقالته من منصبه. وروّجوا بكثافة ادعاء جهاز الاستعلامات التركي عثوره على وثائق خطيرة عند استيلاء القوات التركية على قاعدة الوطية الليبية في شهر مايو/ أيار سنة 2020 تكشف عن "خطة سعودية – إماراتية"، يشارك فيها رموز نظام بن علي، وتهدف إلى تكرار سيناريو مصر في تونس، وإطاحة الرئيس قيس سعيد الذي تعرّض هذه المرة، وبعد أن طفت إلى السطح خلافاته الحادّة مع حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، إلى حملة شعواء من مناصري الإسلام السياسي، خصوصا بعد زيارته القاهرة الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، ولقائه الرئيس المصري، واتهامه بالتخطيط لانقلاب عسكري على شاكلة ما شهدته مصر سنة 2013.
استطاع الجيش التونسي أن يمسح من الأذهان ومن الذاكرة السياسية الصورة الانقلابية، تخطيطاً أو محاولة أو تنفيذاً
الطهورية التي يدّعيها تيار الإسلام السياسي التونسي، برأسيه حركة النهضة وائتلاف الكرامة، في الموقف من الانقلابات العسكرية والأمنية مدخلا لتولي السلطة، واستعمالها في المناكفات والمزايدات السياسية مع خصومهم السياسيين القوميين العرب واليساريين والدستوريين تنفيها تجربة الحركة الإسلامية السودانية بقيادة حسن الترابي وعمر البشير الذي جاء إلى السلطة على ظهر دبابة بعد إطاحة حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيا، والبقاء في الحكم ثلاثين سنة (1989 - 2019) تتجدد كل خمس سنوات عن طريق انتخابات صورية، جاعلا من السودان قاعدة انطلاق لجميع التنظيمات والشخصيات الإسلامية، بما في ذلك المتطرفة منها مثل أسامة بن لادن.
ولا تحتاج التجربة الديمقراطية التونسية إلى كل هذا البكاء والهلع والخوف واتهام المنافسين وغرماء السياسة بالانقلابية، من دون تقديم أدلة وبراهين على هذه التهم. فقد بدأت مبادئ التداول السلمي على السلطة والاحتكام للصندوق الديمقراطي وشفافية الانتخابات وحرية الفكر والرأي وحق تأسيس الأحزاب وغيرها من قيم الديمقراطية تترسّخ ويشتدّ عودها على قاعدة أكثر من قرن من النضال الذي خاضته النخب الفكرية والسياسية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي، وفي أثناء فترة الاستبداد بحقبتيه البورقيبية والبنعلية. ولا أحد يستطيع أن يعيد عدّادات التاريخ إلى الوراء لإنتاج نظام استبدادي جديد، وإن مصدر الانقلابو- فوبيا الحقيقي هو الخوف من فشل تجربة حكم الإسلام السياسي التونسي الممتدة عشر سنوات التي صاحبها شبه انهيار للدولة ومؤسساتها، والاستتباعات السياسية التي قد تنتهي بتلك التجربة إلى فقدان الإسلاميين مزايا السياسة وإكرامياتها الاقتصادية والمالية وسطوة الحكم وشوكته والنفوذ الذي اكتسبوه، ما قد يعرّضهم للمساءلة والمحاسبة وانتقام صناديق الانتخابات.