عن استبداد "ما بعد الحداثة"
تلجأ الحكومة في إيران، التي انطلقت فيها الاحتجاجات الشعبية تحت شعار "امرأة حياة حرية"، إثر موت الشابة مهسا أميني تحت التعذيب، بحجة مخالفتها أحكام الشريعة وانتهاك معايير الحشمة، بسبب عدم ارتدائها الحجاب وتغطية شعرها كما يجب، تلجأ إلى مزيد من القمع ومحاصرة الحرّيات، بزرع كاميرات مراقبة في الأماكن العامة والشوارع من أجل رصد المخالفات من النساء لأحكام الشريعة والدين والأعراف، بدعوى أن هذا ليس قانونًا حكوميًا، وإنما هو قانون ديني، كذلك تزداد حالات التسمّم الجماعي في مدارس البنات. هذا ملمح صارخ من ملامح السلوك الذي تتبعه السلطات في الدول التي تحكُم باسم الدين، كما نرى أنماطًا أخرى أشد انتهاكًا للنساء في أفغانستان، حيث لم تكتف السلطات بفرض اللباس الخاص، بل عمدت إلى إقصاء النساء من المجال العام، حرمانهن من التعليم والوظائف العامة، ونرى إجراءات وقوانين كثيرة متنوّعة تحرم النساء حقوقهن، أو تضعهن في مراتب متدنّية في السلم الاجتماعي والإنساني في دول كثيرة. ولا يقتصر الأمر على الدول النامية أو المتخلفة بحسب التوصيف القائم على معايير محدّدة، بل هناك في الدول المتقدّمة، والتي تقوم أنظمتها على الديمقراطية السياسية والاجتماعية، تعاني فيها المرأة من سلطات استبدادية بأساليب متنوعة وغير ملحوظة، قد لا تبدو في النظرة المباشرة أنها كذلك، لكنها في الواقع تنمّ عن استبدادٍ ينتهك إنسانية المرأة، على الأقل من حيث استقلالية قرارها وحرّية إرادتها، وتضييق الفرص أمامها في المجال العام، وهذه مشكلة تثير النقاش والسجال حولها باستمرار، بالرغم من تحقق نسبة عالية في ما تُدعى الكوتا النسائية، التي تشير إلى تمثيل المرأة في مواقع صنع القرار، وتعتبر وسيلة لدعم النساء للمشاركة في الحياة العامة والسياسية لبلادهن، على اختلاف خلفياتهنّ الطبقية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فهناك خلل في تحقيق العدالة في الفرص بين الرجال والنساء.
هذا ما تشير إليه السجالات في بعض المجتمعات الغربية، ومنها ألمانيا على سبيل المثال، إذ لا تحصل المرأة على فرصها بالتساوي مع الرجل، لا من حيث فرص العمل ولا من حيث الأجور، بالرغم من أن الدستور والقوانين المنبثقة عنه تضمن المساواة وعدم التمييز، كذلك يشكّل حق الإجهاض قضية خلافية لدى الشارع الأميركي والمشرّع الأميركي في الوقت نفسه، فتدخل هذه القضية قائمة الأولويات بالنسبة للمرشّح الأميركي والناخب في الوقت نفسه، وجديدها أخيرا إقرار المحكمة العليا في ولاية تكساس منع دواء "ميفيبريستون" الذي يساعد على الإجهاض، تستخدمه أكثر من نصف مليون امرأة في الولايات المتحدة، ومسموح به منذ أكثر من 20 عامًا، إذ يزداد حديث النشطاء المناهضين للإجهاض عن أن العقاقير التي يسمّونها عقاقير "الإجهاض الكيميائي"، محفوفة بالمخاطر وغير فعّالة. بينما تقول منظمة الصحة العالمية والجمعية الطبية الأميركية إن هذه الادّعاءات غير دقيقة، لأن نسبة الوفاة بسبب هذا العقار لا تتجاوز الخمسة في المليون، بينما يؤدّي البنسلين، على سبيل المثال، إلى وفاة عشرين بالمليون. ومعلوم أن حق الإجهاض يثير زوابع دائمًا في الرأي العام الأميركي، وليس قرار المحكمة العليا هذا سوى واحد من نتائج هذه الزوابع السياسية، بغضّ النظر عن التداعيات القانونية الخاصة وفقًا للدستور الأميركي، وهل سيصبح القانون ساري المفعول أم سيتم نقضه.
الجموح العلمي بلا حدود، يستهدف ما كان ثابتًا في الوعي البشري، وما كان حقائق غير قابلةٍ للنقض
إذا كانت الأنظمة الاستبدادية تحاصر مواطنيها في الدولة، وتضيّق على حرّياتهم، وينال المرأة نصيبٌ إضافي، بسبب مكانتها في المجتمع المتأثرة بالثقافة الحاضنة القائمة بشكل أساسي على سلطة الدين والعرف، وتفرض قوانينها الشمولية، فإن الأنظمة الديمقراطية والعلمانية لم تستطع الوصول إلى مستوىً من المساواة والعدالة الاجتماعية، لا على الصعيد الاجتماعي ولا على الصعيد السياسي يحقّق الهدف المنشود، بل هناك شكلٌ من الاستبداد الناعم المتخفّي خلف مروحة الحرّيات الواسعة، تحت سلطة القانون واستقلالية القضاء، لكن ما يحدُث اليوم، في عصرنا الراهن، أن هناك تغيّرات كبيرة في العالم فرضتها الثورة الرقمية والتطور العلمي في ميادين كثيرة، فإذا كانت الحداثة من أهم مخرجات الثورة الصناعية، وقد أرخت بظلالها على الجوانب الثقافية والحياتية للبشرية، وأنتجت أنظمةً فاشية كالنازيّة والستالينيّة، كما أنتجت وسائل تدميرية للشعوب، كانت هيروشيما نموذجًا عنها بوصفها نتاجاً للعِلم، فإن عالم ما بعد الحداثة، وما يرافقه من أزماتٍ وحروبٍ عالمية بدأ يرخي بظلاله أيضًا، إلى حدّ أنه يغيّر المفاهيم السائدة عن أمور وقضايا كانت تبدو بديهيةً وثابتةً إلى حد كبير قبل هذه العقود، فإذا أخذنا الاستنساخ مثالًا، خصوصا بشقّه التكاثري الذي ما زال مرفوضًا عند الغالبية الساحقة من شعوب العالم وأنظمته، فإن مفهوم التوأم سيتغيّر، لأن الكائن الجديد الناجم عن الاستنساخ ليس توأمًا بالمعنى العلمي والإنساني واللغوي للكلمة، بل هو نسخة طبق الأصل، وهذا أحد مخرجات التطور العلمي.
أمّا لناحية الولادة بالشكل الطبيعي الذي وفّرته الطبيعة للكائن البشري، من الرحم، فمن البديهي بالنسبة للعالم أن الأم هي التي تلد، وهي التي تمنحها الحكومات إجازة الأمومة في معظم أنحاء العالم، إذا كانت عاملة، وهناك دول غربية عديدة، كألمانيا مثلًا، تمنح الوالدين إجازة لمدّة عام تُدعى الإجازة الوالدية.
لدينا من المشكلات المتجذّرة ما يكفي ويزيد في غربتنا عن العالم، أكبرها الاستبداد كنظام سياسي واجتماعي وديني، وغيرها
حدثت، منذ بضعة أيام، ضجّة على أثر مقالة على قناة رسمية للتلفزيون الألماني عن مشروع قرار لدى الحكومة الألمانية بمنح الأب إجازة عشرة أيام مدفوعة الأجر بعد الولادة، إذ لم يتم ذكر كلمة "الأمّ" إنما ذكرت مكانها كلمة تدلّ على "الشخص الذي وَلَد"، فلماذا استخدمت هذه الكلمة؟ كان ردّ القناة أنهم لا يريدون ممارسة العنصرية ضد أحد، فمن هي الجهة المستهدفة بالعنصرية؟ هل حرمان الرجل من الكلمة يعني عنصرية تجاهه والمعروف من القدم أن المرأة هي التي تحمل وتُنجب؟تراجعت القناة عن الكلمة، وأعادت كلمة الأم إلى الخبر، لكن لو نظرنا إلى ما وراء الخبر، يتكشّف الواقع عن تأثير القفزات البعيدة للعلم وتطوّره السريع، إلى الحدّ الذي يثير الارتياب في كل ما عرفناه وعشناه على أنه الحقيقة الوحيدة، فإذا بهذا الجموح العلمي بلا حدود، يستهدف ما كان ثابتًا في الوعي البشري، وما كان حقائق غير قابلةٍ للنقض، ويتسلّل إلى رموز وعينا، فيثير الاضطراب، فهناك تجارب عديدة قامت على زرع رحم في جسد امرأةٍ ليس لديها رحم، وسجّلت تجربة ناجحة، أوّل مرّة، لامرأة تمكنت من إنجاب طفلٍ من رحم مزروع في عام 2014 في جامعة غوتنبرغ في السويد، ما طرح إمكانية زرع الرحم في جسد رجلٍ وتمكينه من الحمل والإنجاب. هذا يعيدنا إلى الضجة التي أحدثتها القناة الألمانية وتراجعت عن الكلمة التي استخدمتها، أمّا الحالة في المجمل، فتضعنا أمام أسئلة صعبة تتفرّع عن سؤال كبير: استبداد العلم، وهل هذا النوع من الاستبداد يستهدف المرأة فقط، أم أنه يستهدف منظومة القيم والمعارف البشرية؟ وهل هو يمارس سلطة ناعمة في طريق شائك وطويل سينتهي بالبشرية إلى عالمٍ مختلفٍ عمّا عاشته البشرية منذ البداية؟ في الواقع، ليس ذنب العلم، فهو يمشي في مساره وطموحه اللامحدود وشغفه، لكنه استبداد الإنسان.
وأخيرًا، أين نحن، شعوب هذه المناطق من العالم، التي ما زالت قضية، ليس فقط شَعر المرأة، بل صوتها أيضًا، تدخل في سلم القيم والأخلاق والمحظور، وتُحمّل المرأة عبء الفضيلة والعفّة وشرف القبيلة والمجتمع، هل سيكون لنا، ونحن على هذه الحال، دور في كبح جماح العلم قليلًا، أو ترويضه، قبل أن تسقط البشرية في هوّة الاغتراب والارتياب الوجودي؟ يبدو أن لدينا من المشكلات المتجذّرة ما يكفي ويزيد في غربتنا عن العالم، أكبرها الاستبداد كنظام سياسي واجتماعي وديني، وغيرها، وكمفهوم وسلوك فردي وجمعي.