عندما يُهان العلم والمتعلمون في مصر
أصدر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قبل أيام، قراراً بمنح خرّيجي الكليات الحربية درجة البكالوريوس في خمسة تخصصات، العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاء واقتصاديات أعمال النقل والحاسبات والمعلومات. وهذا القرار دليل على مدى احتقار العلم في الجمهورية الجديدة، حيث تمنح الدرجة العلمية في تخصّصات شديدة الحساسية بقرارات جمهورية بعيدا عن المؤسّسية، ومن دون تأهيل حقيقي لهؤلاء الحاصلين عليها، في تصديق لمقولة مصرية شائعة عند السخرية إن العلم لا يكيل بالباذنجان.
ليس هذا القرار جديداً، فقبل عام أصدر السيسي نفسه قرارا بمنح خرّيجي بعض الكليات العسكرية درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاء. وعندما تحدّث أكاديميون عن هذا القرار ناقدين فقط آلية اتخاذه وتنفيذه بعيدا عن المجلس الأعلى للجامعات، جاءت التبريرات بأنهم يدرسون مواد مشتركة مع هذه الكليات، والحقيقة أن هذا تبرير واه جدا، فإذا كان بعض خرّيجي الكليات المدنية يدرسون مواد مشتركة مع خريجي الكليات العسكرية هل يحق لهم أن يحصلوا على بكالوريوس العلوم العسكرية؟ وهل حدث أو يحدث هذا في أي دولة أخرى؟
يحدُث هذا في جمهورية الموز الجديدة فقط، عندما يُمنح خرّيج الكلية الحربية بكالوريوسات علوم سياسية واقتصاد وإحصاء وحاسبات وإدارة أعمال النقل، فهذا إهانة ثلاثية الأبعاد، بعدها الأول إهانة العلم ولا جديد في ذلك، فمن تفاخروا بالعلاج بالكفتة واحتفوا باللواء عبد العاطي لا يتورّعون عن إهانة العلم في غير مناسبة، وكأنهم ينظرون إليها باعتبارها كلها علوما لا تفرق تلك العقليات بين علوم سياسية ولا بحرية، كلها علوم لا لزوم لها عندهم. لا احترام للتخصّصات ولا العلوم ولا فهم للفروق والفواصل بينها، وإنما توجّه إلى تثبيت ادّعاء أنهم أطباء فلاسفة بالفطرة لمجرّد كونهم عسكريين.
غالبا إذا أجرينا امتحان نخبة الكليات العسكرية في مادّة التنمية السياسية، أو الاقتصاد الرياضي أو القياسي، أو أي مادّة في قسم إحصاء في مرحلة البكالوريوس، فلن يتجاوزوا الامتحانات
أما بعدها الثاني فهو إهانة من يمنحون هذه الدرجات مجاملة، فإذا ما أعطيتني شهادة في الطب من دون أن تؤهلني علميا فهذا لا يعني أنني أصبحت طبيبا، بل يعني أنك تعرّضني للإهانة، لأني لا أعي مضمون الشهادة التي أحملها في الطب. ويتمثل بعدها الثالث في إهانة الحاصلين على البكالوريوس في هذه التخصّصات من الجامعات المصرية وجامعاتهم وأساتذتهم، فهم يدرسون عشرات المقرّرات، بينما يأتي آخرون ليحصلوا على الشهادات من دون دراسة، في اعتداء واضح وصريح على مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص واحترام التخصّصات الجامعية.
لنذكّر هؤلاء بأن العلوم السياسية أو الاقتصاد أو الإحصاء هي تخصصات مختلفة، وأن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة ونظيراتها المصرية، كانت تقبل أوائل الثانوية العامة، وتدرس حوالي 40 مقرّرا دراسيا، وتعقد فيهم عشرات الامتحانات ما بين منتصف الفصل الدراسي ونهايته، وعدا عن الاختبارات المفاجئة، بالإضافة إلى مئات التكليفات البحثية عبر السنوات الأربع، وفيها شباب عباقرة كانوا مقبولين من علمي علوم وعلمي رياضيات وأوائل جمهورية، وبالعشرات دخلوا هذه التخصّصات، وكان بعضهم يعيدون العام الدراسي. وغالبا إذا أجرينا امتحان نخبة الكليات العسكرية في مادّة التنمية السياسية، أو الاقتصاد الرياضي أو القياسي، أو أي مادّة في قسم إحصاء في مرحلة البكالوريوس، فلن يتجاوزوا الامتحانات.
درس كاتب هذه المقالة أكثر من مادّة اقتصاد وأكثر من مادّة إحصاء ويحمل الماجستير، ويستخدم أدوات بحثية لها علاقة بهذه التخصّصات، لكنه إذا وضع في اختبار في الاقتصاد الرياضي أو مادّة إحصائية متقدمة فقد لا يجتازها، لأن هذه تخصصات علمية صعبة جداً.
وإذا جئنا للتخصّصين الجديدين اللذين قرّر الرئيس فجأة أن يعطي خرّيجي الكليات العسكرية درجة البكالوريوس فيهما، الحاسبات والمعلومات والنقل، فإننا إزاء تخصّصات فنية بحتة وشديدة الدّقة. أذكر أننا كنا ندرس تخصّصا فرعيا في تطبيقات الحاسب الآلي في العلوم الاجتماعية ودرسنا في هذا التخصص الفرعي ثماني مواد شديدة التخصّصية، توازي عاما دراسيا في الكليات الأصلية لتخصص الحاسبات، وعلى يد أساتذة محترفين، كان عديدون منهم يدرّسون في أوروبا والولايات المتحدة، ومع ذلك كان هناك جدل حول اشتراطات تحضير الماجستير والدكتوراه في هذه التخصّصات الفرعية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وبالذات تخصّص تطبيقات الحاسوب.
يحتقر النظام المدنيين بمختلف درجاتهم العلمية، إلى درجة أنه اخترع دورة سمّاها التثقيف العسكري والأمني لأساتذة الجامعات
كثيرون من خرّيجي الكليات العسكرية كانوا يحضرون برامج الماجستير والدكتوراه في كليات العلوم السياسية، وكان الأساتذة يعانون معهم أشد المعاناة، وبعضهم يشكو من ارتفاع الضغط والسكر من نوعية الأسئلة التي يسألونها ومن الإجابات التي يكتبونها في أوراق الامتحانات. وفي أي نقاش جاد مع هؤلاء، تكتشف بسهولة أنهم لم يمرّوا بتعليم جيد في أي مرحلة في حياتهم، غير التدريبات البدنية إلى حدّ ما. والمشكلة أنهم هم من لا يعجبهم الطلبة ولا أساتذة الجامعة المدنيون.
ولا عجب، فالنظام يحتقر المدنيين بمختلف درجاتهم العلمية، إلى درجة أنه اخترع دورة سمّاها التثقيف العسكري والأمني لأساتذة الجامعات. لنتخيل أننا نستقدم أستاذا دكتورا متفرّغا حاصلا على الدكتوراه من الجامعات المصرية، ناهيك عن أن بعضهم حصل شهاداته من جامعة هارفارد، أو أستاذة دكتورة متفرّغة حاصلة على ماجستير ودكتوراه من السوربون، ونجبرهم على دخول دورة التثقيف هذه على أيدي أساتذة أكاديمية ناصر العسكرية العليا، الأقل علما وتخصّصا في هذه المجالات، فيحدّثونهم عن نظريات المؤامرة وعن حروب الجيلين الرابع والسابع.
لا يرتبط الأمر فقط بمحاولة رفع مكانة خرّيجي الكليات العسكرية، فلو أراد أن يفعل هذا بطريقة أكثر شياكة، لربما كان أدخل فكرة التخصصات الفرعية أو فكرة التخصص الثاني الرئيسي مقابل دراسة بقية المواد التي لم يدرسها الطالب في عامين، لرفع كفاءة الخرّيجين من الكليات العسكرية، لكن الأمر يبدو وكأنه يقول لمن يلتحقون بالكليات العسكرية بالواسطة والمحسوبية، وهم الغالبية، لا تقلقوا فما تدفعونه للوسطاء من مبالغ قد تزيد عن المليون جنيه لن يضيع هباءً، فستحصلون على خمسة شهادات علمية لم يكن لكم لتحصلوا عليها في ظل ارتفاع مجموعها في تنسيق الثانوية العامة، وكأننا بصدد أوكازيون. المشكلة أن هذا لن يضمن الكفاءة للمؤسّسة العسكرية، ولا أن تظلّ صاحبة مكانة محترمة في قلوب المصريين، ومحل إجماع وطني، ولن يضمن سوى أن يظلّ خريجو هذه الكليات في غيتو منعزل أكثر عن المجتمع.