عندما ينتظر بوتين حرباً في البلقان

17 ديسمبر 2023
+ الخط -

وجّه الرئيس الأميركي جو بايدن، الثلاثاء 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تحذيرًا إلى الكونغرس، شدّد فيه على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "يعوّل" على توقّف دعم واشنطن لكييف، في وقت دعا فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلفاء بلاده إلى أن يبعثوا رسالة قوية إلى بوتين، بالاستمرار بتقديمهم الدعم العسكري. وقال بايدن، في مؤتمر صحافي مشترك مع زيلينسكي: "علينا أن نثبت أن بوتين مخطئ في هذا الخصوص"، مهاجمًا بشدّة النواب الجمهوريين الذين يعرقلون إقرار حزمة مساعداتٍ عسكريةٍ جديدة لأوكرانيا بمليارات الدولارات.

يبدو أن بوتين يتجّه إلى حسم الحرب في أوكرانيا لصالح بلاده، بعدما بدأ يشعر أن الدول الغربية تبتعد عن دعم كييف في حربها الطويلة والمرهقة لاقتصاداتها، فالمطلوب إذًا بالنسبة إليه إحداث صدمة إيجابية في النظام العالمي القائم، حيث يجد بوتين أن الغرب، بعد حرب غزّة، بات متشرذمًا في صراعه مع أوكرانيا. وقد كثّفت القوات الروسية هجومها على جميع محاور القتال في أوكرانيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع عن حصيلة ثقيلة من الخسائر في صفوف قوات كييف، إثر تنفيذ 15 ضربة واسعة النطاق بأسلحة عالية الدقة ضد منشآت للقوات الأوكرانية، في 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وقد تزامن التصعيد الروسي، بحسب محلّلين، مع تصاعد الأحداث في الشرق الأوسط نتيجة حرب الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة. وثمّة حالة من عدم التوازن يعيشها النظام الأوكراني منذ تفجّر هذه الحرب في 7 أكتوبر، خوفًا من تراجع الدعم الأميركي والغربي له، على وقع انشغال عواصم الغرب، وفي مقدّمتها واشنطن، بما يجري في الشرق الأوسط.

جانب آخر كشفته حرب غزّة، يتعلّق بتعويم بوتين، بحسب تقارير في صحيفتي وول ستريت جورنال ولوموند عن حرب أوكرانيا المنسيّة. إذ ثمّة إجماع على تحسّن كبير طرأ على وضع بوتين منذ حرب غزّة، تمثل في تحريف النظر عما يفعله جيش بلاده في أوكرانيا، واستقطاب حرب غزّة الأقطاب الدولية. وقد بدأ بوتين يجني ثمار الحرب في غزّة، فهو يعتبر أنها، بغضّ النظر، تطورت أم لا، تصبّ لصالحه، إلا أنها غير كافية لإشغال الغرب أكثر، فإشعال حرب ثالثة قد تكون الثابتة لديه، يستطيع من خلالها الوصول إلى مبتغاه، أي رضوخ الغرب لشروطه ومطالبه.

العملية العسكرية في أوكرانيا والحرب في قطاع غزّة زعزعتا التماسك الغربي "الهش"، ودفعتا أكثر إلى الحديث عن ضرورة إعادة النظر في وضع تركيبة جديدة للنظام العالمي

لقد عانى بوتين، منذ استلامه السلطة في روسيا، من طريقة "اللامبالاة" التي يتّبعها الغرب تجاه مخاوف بلاده، لهذا أشعل الحرب في أوكرانيا، واستغلّ الحرب في غزّة عبر تأليب الرأي العام العالمي على الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل في ارتكابها المجازر بحقّ الشعب الفلسطيني، ما رفع من نسبة مؤيديه في حربه ضدّ كييف وداعميها في الغرب.

العملية العسكرية في أوكرانيا والحرب في قطاع غزّة زعزعتا التماسك الغربي "الهش"، ودفعتا أكثر إلى الحديث عن ضرورة إعادة النظر في وضع تركيبة جديدة للنظام العالمي ومؤسّساته وقوانينه. ولكن، ماذا لو كان هناك اشتعال لحرب ثالثة جديدة بدأت ملامحها تظهر بقوة في أوروبا، في منطقة البلقان بين صربيا وكوسوفو، فهل ستصبّ في مصلحة موسكو الحليفة لصربيا وتطبّق المثل "الثالثة ثابتة" في تفكيك العلاقات الأوروبية والغربية وتفتيتها؟

مرّة أخرى، تعود التوترات بين صربيا وكوسوفو، اللتين حافظتا على سلام هشّ منذ الحرب بينهما نهاية التسعينيات، والتي انتهت باستقلال كوسوفو بدعم من حلف الناتو. وتأتي التطوّرات هذه المرّة مدفوعة بطموحات الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الذي يعمل على تعزيز بقائه في السلطة من خلال دفع القومية الصربية ومداعبة أحلام الصرب المتطرّفين باستعادة كوسوفو، وهو يلقى في ذلك دعمًا من روسيا، التي تجد في البلقان فرصة سانحة لإشعال صراع جديد كبير في أوروبا يثبت هشاشة حلف الغرب، ويصرف التركيز عن الحرب في أوكرانيا.

حرب ثالثة منتظرة، في حال اشتعلت، ستحدّد مسار الحرب في أوكرانيا

قد تكون حربٌ ثالثةٌ هي الثابتة بالنسبة إلى بوتين، من خلال تحقيق النصر المنشود، لا سيما أن الصين على خطى روسيا مع تغيير النظام الدولي الحالي، فنظام متعدّد الأقطاب هو ما بشّر به الرئيس الصيني شي جين بينغ، في زيارته موسكو في مارس/ آذار الماضي، حيث اعتبر أن التغيير حتمي لكنه يحتاج إلى وقت.

حرب ثالثة إن اشتعلت في البلقان قد لا تكون ثابتة لروسيا، فالمرجّح أن يعيد الغرب من التاريخ هجوم الاتحاد السوفييتي على أفغانستان (المسلمة) ما استقطب رأيًا عامًا إسلاميًا كان سببًا لسقوطه. فدعم روسيا اليمين الصربي المتطرّف قد لا يخدم طموحاتها في حال نشبت الحرب هناك. إذ من الممكن أن يستغلها حلف شمال الأطلسي المؤيد لكوسوفو (المسلمة)، الأمر الذي سيرتدّ سلبيًا على حرب روسيا في أوكرانيا من خلال إحراج داعمي جيشه من الشيشان وإيران وأوزبكستان الذين يحاربون في صفوف الجيش الروسي.

هي الحرب الثالثة المنتظرة، في حال اشتعلت، ستحدّد مسار الحرب في أوكرانيا ومصير روسيا وطموحات بوتين من النظام العالمي الجديد، فلدى الغرب في هذه الحرب تحديدًا كثير من نقاط القوة التي يستخدمها بوجه بوتين، والتي تشكّل ورقة رابحة، في مقدّمها تأليب الرأي العام المسلم عليه. فهو بارع في ذلك، فبين حين وآخر، يطلّ على الصين من خلال دعوتها إلى احترام حقوق الأقليّة المسلمة (الإيغور) فيها، فهل ينتظرون بوتين في الحرب الثالثة لتكرار السيناريو في كوسوفو؟

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب