عندما يكون الشعب الغاية .. ألمانيا نموذجاً

29 يوليو 2022

المستشار الألماني أولاف شولتز (يسار) ونائبه روبرت هابيك في برلين (14/6/2022/Getty)

+ الخط -

العالم في أزمات عديدة خانقة، والبشرية عمومًا تعاني من تهديدات وجودية كبيرة، جائحات كورونا المتلاحقة، الحرب الروسية على أوكرانيا، أزمة المناخ وما ينجم عنها من انزياحات مناخية، وارتفاع درجة حرارة الأرض والحرائق التي تتلاحق وتهدد المنظومات البيئية بشكل كبير، الفقر والجوع والتحكم بالموارد الطبيعية، الهجرة واللجوء والملايين الزاحفة من جنوب الكرة الأرضية باتجاه شمالها، وغيرها الكثير مما يتباين من حيث الأهمية.

تأثر العالم أجمع تقريبًا، بما هزّ أركان الاقتصاد، حتى في الاقتصادات القوية والراسخة، وإذا أخذنا ألمانيا نموذجًا باعتبارها الاقتصاد الأقوى في الاتحاد الأوروبي، فإن الفرد الألماني بات يعاني في معيشته، فهناك ارتفاع دائم في الأسعار، وهناك تضخّم في ازدياد، بل بدأت تظهر بعض التراجعات في البنى التحتية، ومنها مشكلات سكك الحديد والخدمة في القطارات التي أظهرتها البطاقة المخفضة بقيمة تسعة يوروهات في الشهر، التي مُنحت لمدة ثلاثة أشهر تنتهي في نهاية شهر أغسطس / آب، ويخيّم اليوم على ألمانيا شبح المستقبل القريب القادم، في ظلّ حرب الغاز التي تدور بين روسيا والاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد أن صحّت التوقعات وصرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تخفيض الكمية المرسلة إلى أوروبا، عن طريق خط نورد ستريم 1، إلى 20% اعتبارًا من صباح 27 يوليو/ تموز الجاري. وقد توقع الخبراء باكرًا ارتفاع أسعار الغاز في البورصات، لأن الطلب على الغاز ثابت نسبيًا. لذلك يتعين البحث عن بديل تحسبًا لانقطاع الغاز الروسي، وهذا ما لمسناه من لهاث من قادة العالم لتأمين عقود وصفقات من مصادر بديلة. إذ ترخي أسعار الطاقة المرتفعة، والتهديد بحصول نقص في إمدادات الغاز، بثقلها على الاقتصاد، زيادة على ضعف الطلب العالمي وتوترات سلاسل التوريد، التي بدأت أزمتها باكرًا بعد كورونا، وهي ترخي بثقلها على الاقتصاد الألماني أيضًا. ولقد أعلن المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (أي إف أو)، الإثنين، أن مناخ الأعمال في ألمانيا تدهور بشكل واضح وكبير خلال شهر يوليو/ تموز الجاري. وأشار المعهد في بيان إلى تراجع المؤشر الشهري الذي يُحتسب بناء على استطلاع لتسعة آلاف شركة ألمانية، ويعطي فكرة عن النشاط الاقتصادي، إلى 88,6 نقطة في يوليو/ تموز بعدما كان 92,2 نقطة الشهر الماضي، مسجّلًا "أدنى مستوى له منذ يونيو/ حزيران 2020". وهذا متوقّع بالنسبة إلى ألمانيا التي تساهم مع دول الاتحاد وأميركا في فرض العقوبات على روسيا، وتساند أوكرانيا في هذه الحرب. وقد صرّح روبيرت هابيك، وزير الاقتصاد ونائب المستشار الألماني أولاف شولتس: "لا توجد أسباب فنية لتخفيضات التوريد. التوربين جاهز للتسليم إلى روسيا"، مشيرًا إلى أن وثائق تصدير شركة سيمنس إنيرجي موجودة بالكامل، "لكن روسيا ترفض إصدار وثائق الاستيراد". واتهم السياسي المنتمي إلى حزب الخضر روسيا بأنها "تخرق التعاقدات وتلقي باللوم على الآخرين"، قائلًا إن "بوتين يلعب لعبة غادرة"، فهو "يحاول إضعاف الدعم الكبير لأوكرانيا ودقّ إسفين في مجتمعاتنا. ولهذا السبب، يؤجّج الاضطراب ويرفع الأسعار، ونحن سنتصدّى لذلك بالوحدة والعمل المركّز، ونحن نتخذ احتياطات حتى نتجاوز الشتاء". وأوضح أن حكومة بلاده تنفذ منذ أشهر خطة وقائية جرى استكمالها في الأسبوع الماضي بحزمة لتأمين الطاقة.

تعمل الحكومة الألمانية على دراسة المعطيات واستشراف المستقبل ومحاولة اجتراح الحلول

وهذا يؤكّد أن الحكومة، كما الحكومات في الدول القوية ذات الديمقراطيات الراسخة إلى حد ما، تعمل على دراسة المعطيات واستشراف المستقبل ومحاولة اجتراح الحلول، فهي تضع الشعب في مركز الاهتمام، لذلك نرى الحكومة تسعى بكل إمكاناتها إلى منع انهيار ثقة الشعب بها، فالقرار، في النهاية، للشعب بالفعل، فهو قادر على إسقاط أي حكومة مقصّرة أو تؤدي أداءً دون الطموح، وتسعى أيضًا إلى مساعدة الفئات ضعيفة الدخل، وقد نفذت الحكومة في ألمانيا بالفعل حزمتي إغاثة للأسر والشركات التي تعاني من الزيادة الحادّة في أسعار الطاقة، بما في ذلك مبلغ يدفع لمرة واحدة وبسرعة للأسر الضعيفة. كما أنها تحمي الشركات المتضرّرة بشدة، ويبدو أن لديها بعض الهوامش المالية المتراكمة منذ ما قبل الوباء، وهي استطاعت أن تسدّ بعض الثغرات وتضع سياسات مالية مرحلية من أجل حماية معيشة الناس ومنع التضخّم وتوابعه، لكن الأمور اليوم تسير بتسارع مقلق، ولقد اتفق، في 26 يوليو/ تموز الجاري، قادة دول الاتحاد على خطة طوارئ بشأن واردات الغاز، تهدف إلى تخفيف تداعيات التوقف الكلي المحتمل للإمدادات من روسيا بحسب ما أعلنته جمهورية التشيك التي تتولى الرئاسة الدورية الحالية لمجلس الاتحاد الأوروبي، وتقضي بتخفيض طوعي بنسبة 15% في استهلاك الدول الأعضاء من الغاز الطبيعي من أول أغسطس/ آب 2022 إلى 31 مارس/ آذار 2023، وتشارك عبء النقص، ولم يعترض على الخطة غير المجر.

تسعى الحكومة بكل إمكاناتها إلى منع انهيار ثقة الشعب بها، فالقرار للشعب بالفعل، فهو قادر على إسقاط أي حكومة مقصّرة

وعمليًّا، راحت ألمانيا تبني بسرعة لافتة محطات الغاز الطبيعي المسال، وتسعى إلى القيام بمبادرات مماثلة في قطاعات أخرى. وهذا يدلّ على أن ألمانيا، رغم كل التحدّيات والمخاوف من تبعات هذه الحرب الممتدّة، من دون التكهن بنهايتها في المنظور القريب، وبرغم التخوّف من تضعضع بنيان الاتحاد الأوروبي، فإنها لا تستسلم ، مثلها مثل دول أوروبية عديدة، للأزمات، إذ ليست هي الأزمة الأولى خلال العقود الخمسة الأخيرة، فقد نهضت من أزمة 2007/ 2008، وعاد الانتعاش إلى اقتصادها، والحكومات المتتابعة تستثمر كل طاقاتها وجهودها في الحفاظ على القوة الاقتصادية، وعلى تماسك المجتمع بتلقّف الأزمات ووضع الحلول لها، من دون أن ترهن سيادتها إلى أي طرف. وها هو تصريح نائب المستشار يؤكد هذا: "نحن نعمل بكل قوة وبوتيرة عالية للغاية على إنشاء بنية تحتية لمحطّات الغاز الطبيعي المسال وملء الخزانات وتخفيض الاستهلاك. الأمر الواضح أنه يجب تخفيض استهلاك الغاز وأن الخزانات يجب أن تصبح مملوءة. والحكومة الألمانية تقوم دائما بما هو ضروري من أجل ذلك".

أي حديث في أزمات العالم لا بدّ أن يحيلنا إلى منطقتنا المنكوبة بحروبٍ وأزماتٍ متلاحقة، كل دولة بمفردها، من دون أن يكون هناك اتفاقٌ على موقف واحد، أو إجماع على قضية، فمن ينظر إلى واقع معظم الدول العربية سيصيبه اليأس، ويستبدّ به الخوف من انعدام إمكانية المبادرة في أي منها، خصوصا التي أنهكتها الحروب والانقسامات، وتعدّدت فيها الولاءات، وصارت سيادتها على شفير الهاوية، إن لم تسقط بالكامل. هل نعدّد ما هو واضح وجلي ومكشوف للعيان؟ بتنا، في معظم دول المنطقة، في مرمى كل القوى العالمية والإقليمية، وبتنا أمام التهديدات الوجودية التي لم تعد تهديدات بالنسبة لنا، بل هي واقع يتغوّل كل يوم في حياة الناس، معروضين للبيع، بيع الأرض والسيادة والمصير، وحكومات وأنظمة عاجزة عن النهوض بشعوبها، فيما لو توفرت النية، وهذا بعيد الاحتمال في ما نراه من تهافتٍ على أبواب القوى الإقليمية والعالمية، وتدير حروبها الكلامية فيما بينها، وتكيل الاتهامات بعضها لبعض، وتسطو على إرادة شعوبها وحقها في صنع مستقبلها وتقرير مصيرها.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن