الشعب السوري في صفقات السياسة
الحروب والنزاعات المُسلّحة، وأحيانًا غير المسلّحة، تنتج واقعاً جديداً وتنتهي إلى طاولة المفاوضات، لكن بعد أثمان باهظة تدفعها الشعوب، التي ربّما لم تكن الحرب خياراً وحيداً لها، وإنّما الأنظمة السياسية، أو الحاكمة، هي من يُخطّط للحروب ويدفع الشعوب إليها.
لا يوجد في السياسة أعداء ولا أصدقاء، توجد مصالح. هذا ما ردّده كثيرون من السياسيين والزعماء، وما استنبطه علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وغيرهم. وقد قالها ذات يوم الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، في معرض حديثه أو تلميحاته الباكرة عن إمكانية الانفتاح على النظام السوري، أو اللقاء معه، وقد عقدت لقاءات عدّة في آخر سنتَين على مستويات الأجهزة الاستخباراتية والدفاع والخارجية، في التحضير للمرحلة الحالية التي أصبحت السياسة التركية فيما يخص الأزمة السورية وعلاقة تركيا بها واضحة وصريحة، جديدها أخيراً تصريح الرئيس التركي في الطائرة التي كان عائدًا بها من كازاخستان، بعد لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إذ قال، كما نقلت صحيفة حرييت، إنّه قد يدعو بشار الأسد بوساطة روسية إلى زيارة تركيا، وإن السلام الذي قد يعمّ سورية ضروري من أجل عودة اللاجئين. وقد أوضح أنّ هذه النقطة مبنية على الهدوء الذي تحقق أخيرًا في الأرض، وهذا استكمال لتصريحاته في آخر فترة، مُلمّحاً إلى عودة العلاقات مع النظام السوري.
فشلت المُعارّضة السورية، التي وضعت البيض كلّه في سلّة واحدة، ميدانيًا وعسكريًا، والفشل الأكبر كان سياسيّاً
في الواقع، بدأ التحوّل التركي في سورية منذ سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على مناطق شمال شرقي سورية، وتشكيل منطقة حكم ذاتي تحت مُسمَّى الإدارة الذاتية، لم تعد تركيا تضع في رأس القائمة إسقاط النظام، وإنّما الوجود الكردي، وهذا معروف، وقد أدّى إلى ترسيخ الوجود التركي العسكري في الشمال السوري، وقيامه بعمليات عسكرية عدّة ضدّ مناطق وجودهم في الشمال السوري، فهناك عشرات النقاط العسكرية وآلاف الجنود، عدا السيطرة السياسية والاقتصادية والإدارية على تلك المناطق، وربطها بالداخل التركي.
لتركيا أسبابها التي تنطلق من مصالحها، أولًا وأخيرًا، بالنسبة إلى دورها في سورية، وهي إن كانت في البداية فتحت أبوابها واسعة للاجئين السوريين، ودعمت قوى المُعارَضة والفصائل، واحتلّت قسماً كبيراً من الشمال السوري، فإنّها دائماً ما تراجع سياساتها وتعيد رسم خططها المستقبلية وفقًا لمعطيات الواقع وتغيّراته، إن في الداخل التركي، أو إقليميّاً ودوليّاً، وتسير في طريق تطبيق السياسات التي تُلبّي هذه المصالح. أمّا المُعارّضة السورية، التي وضعت البيض كلّه في سلّة واحدة، فإنّها فشلت ميدانيًا وعسكريًا، والفشل الأكبر كان سياسيّاً، بعد أن راحت القوى والدول الداعمة، ومن سُمّوا أصدقاء الشعب السوري في بداية الحراك الشعبي، يتراجعون بالتدريج عن دعمهم المُغدِق في البداية، حتّى لم يبقَ صديق أو حليف يمكن الاعتماد عليه بشكل يُحقّق "المعجزة" التي كانت في بداية الحراك حلمًا وطموحًا لم يكن من المستحيل تحقيقهما.
لا يستطيع أيُّ فردٍ يمتلك الحدّ الأدنى من المشاعر الإنسانية إلّا أن يستهجن ما يتعرّض له السوريون في بلاد اللجوء، خاصّة في الجوار، ويتعاطف مع محنتهم الإنسانية، وتعرّضهم لانتهاك كرامتهم وأمنهم ومستقبلهم. وآخرها ما وقع في قيصري (وسط تركيا) من عنف واعتداءات على السوريين، مدفوعة بنزعات عنصرية واضحة، وامتدّ إلى مناطق أخرى في تركيا، وما تلاها من انتهاكات كان من أبشعها وأخطرها تسريب بيانات ما يقارب ثلاثة ملايين سوري ونشرها في شبكة الإنترنت، فصارت في متناول كلّ العالم، ويمكن لأيّ شخص أن يستخدمها في توريط السوريين في مشاكل ومصائب مفتوحة على الاحتمالات كلّها.
يُشكّل السوريون، في الداخل التركي، وفي الشمال السوري الخاضع لسيطرة الفصائل والحكومة المُؤقّتة وحكومة الإنقاذ، كتلةً وازنةً من الشعب السوري، هؤلاء ارتبط مصيرهم بقادة المُعارَضة والفصائل، وجرت حياتهم وفق هذا الارتباط، وشعورهم، بالتالي، بأنّ هناك من يُمثّلهم ويدير شؤونهم ويحمي حياتهم، لكنّ الوضع الآن تغيّر رغم التطمينات التي صرّح بها الرئيس التركي بالنسبة إلى المُعارَضة السورية. لكنّ المُعارَضة نفسها (ومعها بضعة ملايين من السوريين في الداخل التركي، والداخل السوري الواقع تحت سيطرة تركيا) تشعرون بأنّه سيجري التضحية بها، خاصّة بعد تصريحات الرئيس التركي بأنّ الحكومة التركية تعمل وفق المصالح التركية، التي هي الأولى. والمعارضة تعرف أنّ أيّ تحوّل في السياسة التركية تجاه النظام في دمشق يفرض عليها تغيير علاقتها بالمُعارَضة السورية، وذلك انطلاقًا من التنازلات التي يمكن أن تتم في هذا التقارب، فهذا التقارب هو شكلٌ من أشكال التفاوض بناءً على معطيات الراهن والواقع الجديد.
الحالة السورية هي معضلة بالفعل، خصوصاً بالنسبة إلى الشعب السوري المُمزَّق شرائحَ وفئاتٍ ومجموعاتٍ وجماعات، والواقع تحت احتلال أربعة جيوش في الأقلّ، والمُشتّت في بقاع الأرض، والمُرتَهَن للحروب والنزاعات والمساومات منذ ثلاثة عشر عامًا، بالإضافة إلى تصفية الحسابات بين القوى الدولية والإقليمية. لذلك، فإنّ القلق من المستقبل، واليأس من إمكانية تحقيق حلّ عادلٍ لقضيته يرضي أطيافه كلّها، يعتمد على التكهّنات وانتظار ما ستُحقّقه التحوّلات والتغيّرات في السياسة الدولية، وفي أنظمة القوى الدولية والإقليمية. هذا قدر الشعب السوري، أن ينتظر من يفوز بالرئاسة الأميركية، هل سيأتي دونالد ترامب ويُحقّق ما وعد به، إن كان في الحرب الروسية الأكرانية، أو في النزاعات في الشرق الأوسط، ومنها التواجد الأميركي في منطقة الإدارة الذاتية؟ أم في تغيّر السياسة الإيرانية بعد فوز رئيس إصلاحي (مسعود بزشكيان) يرنو إلى مدّ يد الصداقة للجميع، وخاصّة الولايات المتّحدة، وما ينجم من ذلك من تغيّر كبير في المنطقة؟ أم متابعة التقارب الروسي التركي والتغييرات القادمة في علاقة تركيا مع النظام السوري؟
والأكثر أهمّية من هذا كلّه هو خوف الشعب السوري، بشكل عام، من مستقبل غير مضمون الاستقرار والأمن والحقوق، بعدما كرّست الحرب والتدخّلات الخارجية والأجندات تشرذمه، وتخوين فئاته بعضها بعضًا، بعد فرزه جماعاتٍ مؤدلجةً دِينيّاً أو قوميًّا أو طائفيًّا.
باستثناء سورية، تسعى أيّ دولة عى إلى حماية شعبها وتعزيز مصالحها، فتبحث تركيا عن مسار لإنهاء الحرب في سورية، لا أفق له منذ 13 عاماً
في ظلّ هذه التكهنات كلّها، والتحوّلات التي تجري حقيقة في الواقع، يبقى الشعب السوري وحده، يُدمي قلب كلّ إنسان ما زال لديه بقيّة ضمير، وهو يتعرّض لأبشع أشكال الانتهاك والامتهان في دول اللجوء، في المُخيّمات، في الداخل وفي الخارج، ولا ضامن له ولا حامي أمام هذا المدّ المُتسارِع، بينما السياسة لا تستعجل في العادة، فإدارة النزاعات تتبع إدارة المصالح، فهل مصلحة تركيا في سورية تكمن في دفع الحلّ السياسي، حلّ يعيد الاستقرار إلى سورية، وهل هي بالفعل ليست بوارد التضحيّة بعلاقتها مع المُعارَضة التي تُشكّل ركنًا أساسيًا؟ وماذا عن البيئة الحاضنة لهذه المُعارَضة المرتبطة بها منذ بداية الحراك؟ هل هي قادرة على حمايتها، وحماية السوريين اللاجئين لديها، والواقعين تحت سيطرة الفصائل والقوى المدعومة منها؟ ... هي تريد البحث عن مسار يُؤدّي إلى إنهاء الحرب في سورية، إذ لا يوجد أيّ أفق لهذا المسار منذ 13 عاماً، وهذا أمر طبيعي، فأيّ دولة تسعى إلى حماية أمن شعبها وتعزيز مصالحها، إلّا الدولة السورية، التي صارت أشبه بدويلات من دون اعتراف بها، ويبدو أنّها لم تعد لديها تلك الأهمّية التي كانت فيما مضى، لكنّ القوى الإقليمية الضالعة في حربها يمكن أن تتّخذ منها وسيلةً للضغط على القوى الكبرى في سبيل تحقيق مصالحها، ويكفي أزمة اللاجئين التي تلعب بها تركيا مع أوروبا كلّما اضطرّتها الظروف، ويكفي دور إيران في صراعها مع الولايات المتّحدة وحلفائها وإسرائيل، ويكفي روسيا، التي صارت اللاعب الأساسي في الشأن السوري... أمثلة على هذا الواقع المُخزي المُهين المُوجع.